مآثر التلفزيونات

نشر في 24-12-2008
آخر تحديث 24-12-2008 | 00:00
 بلال خبيز كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بودريارد إبان حملة التحالف الغربي بقيادة أميركية على النظام العراقي بهدف تحرير الكويت، أن حرب الخليج لم تحدث لأنها حدثت على الشاشات، لكن الحرب التي لم تحدث أيام جورج بوش الأب، حدثت حقاً في عهد جورج بوش الابن، ذلك أن هذه الحرب لم تكن حرباً نظيفة كالحرب التي سبقتها، لا في المقاصد ولا في العمليات اللوجستية، وسرعان ما انتقلت رائحة العراق إلى أقاصي العالم، وتضاعفت عذابات العراقيين في ظل مقاومة هائجة وعمياء وجيش احتلال قاس ومشهد سياسي متراجع من حدود الدولة الأمة إلى حدود مجتمعات أهلية تسبق استواء الدول الجامعة، ومع تضاعف هذه الآلام أصبحت الكاميرا، تمييزاً لوسائل الإعلام المرئي عن الصحف المحلية، أعجز من أن تلتقط حجم هذه العذابات، وأقل قدرة على الإحاطة بها جميعاً، وقد فاتها كثير من الدم الطازج ولم تفلح في التقاط حرارته وبثها على الهواء. فكثر القتلى المجهولون المدفونون في مقابر جماعية في أنحاء العراق بعيداً عن أعين الصحافيين التلفزيونيين وعن مجال كاميراتهم. ومع تفشي الدم المراق في أنحاء العراق كله، أصبح الحدث يحدث بعيداً عن الكاميرا، ومتأخراً على زمن البث المباشر. فصور أبو غريب اكتشفت بعد زمن من حدوث أحداثه، واكتشاف المقابر الجماعية مازال أمراً يومياً في العراق، على نحو يعجز الكاميرات وحامليها عن معرفة أسماء الضحايا. وفي اختصار شديد، بات الحدث يحدث بعيداً عن الكاميرا، وفي غيابها، لكنه لم يكن حدثاً مهملاً وهامشياً، لأن الكاميرات نفسها ساهمت في جعل الحدث العراقي حدثاً محسوساً ومرئياً وواقعياً في العالم كله. في ظل هذه الحمى العراقية، لم يسلم حاملو الكاميرات أنفسهم من القتل والذبح. ذلك أن صانعي الأحداث في العراق كانوا يتوسلون إحداث الأحداث في غفلة عن كل عين، ففضلوا التعتيم على الإنارة، والكتمان على الإفصاح، فكان ليل بغداد، طوال سنوات، هو الناطق عن حالها، مثلما كانت الكاميرات، أقله منذ بدء الحملة الأميركية على العراق، أعجز من أن تتحقق مما يجري. ومازلنا نذكر أن بغداد سقطت قبل أن يتمكن الصحافيون من معرفة ما يجري.

كان الصحافيون المحاصرون بالنار من الجهتين، يعتمدون في حرب العراق على مصدرين: قاعدة العيديد في قطر، وجولات محمد سعيد الصحاف على الفنادق التي يقيم فيها الصحافيون. بعضهم شاء أن يصدق الجنرالات الأميركيين، وبعضهم آثر أن يصدق الصحّاف. وفي الحالين، كان الحدث يحدث بعيداً عنهم، وكانوا أعجز من التحقق من حصوله أو صحته. صدقوا ما أُريد لهم أن يصدقوه. وفشلت الكاميرات في أن تبث ما كان المشاهدون يعرفونه من دون حاجة لتعليقات الصحافيين المسجونين في فنادقهم.

في تلك الحرب، كانت مأثرة المراسلين التلفزيونيين الكبرى، بمعداتهم الثقيلة والنفيسة، إنهم أذعنوا للحصار المفروض على بغداد وعانوا أقل قليلاً مما عانى العراقيون، إنما أكثر كثيراً مما عانى المشاهدون في العالم أجمع. الأيام التي تلت سقوط بغداد لم تتح للكاميرات أن تستعيد ألقها. ذلك أن أحداث العراق كانت تطفح بالأسرار والملثمين، وهو ما لا تطيقه الصحافة المرئية أصلاً.

ثم إن المعارك الأهلية التي حفل بها العراق طوال السنوات الماضية لم تكن تتيح للصحافيين استعادة زمام المبادرة أمام الأحداث التي ترفض وتبدو عصية على تأطيرها في إطار تلفزيوني، ومنذ استعار تلك الحرب، باتت الصورة أقل قدرة على الإبلاغ. إذ كيف يمكن لمدافع عن مقاومة عراقية تريد تحرير العراق من الاحتلال الأميركي أن يبرر صور القتلى الذين يسقطون في الأسواق المزدحمة بفعل تفجير انتحاري قام به مقاوم «مجاهد». لم يكن ثمة من مخرج من هذه المعضلة إلا التقليل من شأن الدم وجريانه، تمهيداً لإهمال إهراقه بدداً، وجعله من نوافل الحياة اليومية، وهي حياة نضال مصيري يهون فيها الدم وتصغر الهموم اليومية أمام تعملق النضال واستهدافاته المعلنة نحو صناعة التاريخ وبناء عمارة المجد السليب. فغدا الموت العراقي شأناً نافلاً وباتت شاشات التلفزيون تفضل حفلات شتائم متلفزة واتهامات متبادلة بالخيانة والتخاذل على صورة الدم المراق العزيزة المنال. هكذا، وعلى هذه الأسس عززت برامج «التوك شو» أمجادها وأعلت عروشها، وعلى نسيان الواقعة المرة واستبدالها بالعراك اللفظي على الشاشات قامت مأثرة التلفزيونات المجيدة في السنوات القليلة الماضية.

* كاتب لبناني

back to top