ما قل ودل: حماية العدالة... الوجه الآخر للمسألة الدستورية في الاستجواب

نشر في 16-03-2009
آخر تحديث 16-03-2009 | 00:00
 المستشار شفيق إمام القائلون بأنه ليس هناك ما يمنع من أن تكون مصاريف ديوان سمو رئيس مجلس الوزراء، المحالة إلى النيابة العامة، موضوعاً لاستجواب أمام مجلس الأمة، لأن المساءلة السياسية تختلف عن المساءلة الجزائية في طبيعتها ومداها ونطاقها والإجراءات التي تتبع بشأنها، يقفون عند وجه واحد للمسألة الدستورية، ويغفلون الوجه الآخر لها وهو حماية العدالة.

إن الدعوة إلى حماية العدالة من تأثيرات المساءلة السياسية أمام مجلس الأمة ينبغي أن توضع في المقام الأول، وأن يكون لها الأولوية على ما عداها من مصالح واعتبارات عند نظر الاستجواب.

فلقد كفل الدستور حماية العدالة، فيما نص عليه في المادة السابعة من اعتبارها أحد مقومات ثلاثة أساسية للمجتمع (العدل والحرية والمساواة)، وفيما نص عليه في المادة 162 من أن (شرف القضاء، ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الملك وضمان للحقوق والحريات)، وفيما نص عليه في المادة 34 من افتراض البراءة في المتهم إلى أن تثبت إدانته.

ولا تتأتى حماية العدالة، إذا بدأ البحث في أدلة الاتهام وتقييم هذه الأدلة، خارج قاعة التحقيق وخارج قاعة المحكمة في محاكمة سياسية في قاعة الشيخ عبدالله السالم، قبل أن تبدأ في محراب العدالة، واندلعت المناقشات وحمي وطيسها- أثناء نظر الاستجواب- حول صحة الوقائع المنسوبة إلى الوزير والتي تكون محل المساءلة السياسية، في الوقت ذاته الجرم الجزائي الذي تتولاه سلطات التحقيق الجزائي، وحيث تتركز ثورة الأعضاء في البحث عن الأدلة وتتبلور في تقييمها، وفي وصف المسؤولين المتهمين بالجرم الجزائي بأوصاف شتى قد تصل إلى الإدانة الكاملة من نواب الأمة، والذين يتمتعون بكامل الحرية فيما يبدون من آراء وأفكار بالمجلس في ظل الحصانة البرلمانية التي يكفلها لهم الدستور.

ولاتتأتي حماية العدالة إلا من خلال الالتزام بمجموعة من القيم التي تكفل للمتهم الحد الأدنى من الحماية والحقوق التي لا يجوز النزول عنها، وأنه لا يجوز كذلك نقض افتراض البراءة في المتهم، بغير الأدلة الجازمة التي تخلص اليها المحكمة، وتكون جماع عقيدتها، ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوماً محدداً لدليل بعينه، وهو ما لا يتوافر إذا بدأ البحث عن الدليل وتقييمه من نواب الأمة، مصدر السلطات جميعاً، وفي محراب الديمقراطية الذي يتميز بجلساته العلنية.

والواقع أن مشاعر الإدانة ضد بعض الموظفين الذين تتناول النيابة العامة سؤالهم في هذا الموضوع، والتي يمكن أن تشيع في الرأي العام من جراء هذه المحاكمة السياسية، لا يمكن أن تتيح للمحقق وضوح الرؤية وصفاء الذهن وعدم الضجر أو نفاد الصبر وعدم التسرع في الحكم والمرونة والكياسة التي يتطلبها التحقيق لبلوغ الحقيقة ولإزالة/أو التخفيف من حالة الاضطراب أو الرهبة التي تنتاب المتهمين أو الشهود أو الخبراء عند مثولهم للتحقيق أمام المحقق أو أمام المحكمة، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام «أكرموا الشهود فإن الله يحيي بهم الحقوق»، بل ستؤثر هذه المشاعر حتماً في النهاية على مجريات التحقيق وعلى الاستخلاص السائغ للوقائع وتقييم الأدلة ووزنها وربما تؤدي الى التسرع في توجيه الاتهام انسياقاً وراء هذه المشاعر.

وقد يدفع كثرة ما يتداوله الناس في هذه القضية من خلال ما تتناقله وسائل الإعلام عن المحاكمة السياسية، الشهود إلى المبالغة في التصوير أو التحريف في الرواية أو إلى تصديق ما سمعوه عبر هذه الوسائل والإضافة إليها، وقد يحجم بعض الشهود عن الإدلاء بمعلوماتهم عن وقائع أو أمور معينة، أوعن التقدم بالإدلاء بشهادتهم خوفاً ووجلاً من مشاعر الرأي العام التي سببتها المحاكمة السياسية التي جرت في محراب الديمقراطية، وقد يتقدم شاهد للإدلاء بشهادته دون أن يكون على يقين من الوقائع التي يدلي بها انسياقاً وراء هذه الإدانة التي تكشفت له من خلال كلام ألقاه أثناء مناقشـة الاستجواب نائب في مجلس الأمة، يفترض أنه يمثل الأمة بأسرها.

والخبير بدوره قد يتأثر بما أذيع أو كتب فينساق وراء التصوير الذي استقر في المحاكمة السياسية تحرجاً من الوقوع في خطأ إذا أبدى تصويراً مختلفاً... نعم القضاة يحكمون بنصوص القانون، ولكنهم بشر.

وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام حين كان يقضي بين المتخاصمين «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فاقض له على نحو ما أسمع، فمَن قضيت له من حق أخيه شيئاً فقد أقطعته جمرة من نار فلا يأخذها».

نعم القضاة يحكمون بنصوص القانون، ولكن القاضي حين يرجح دليلاً ويطرح دليلاً آخر أو يأخذ من أي بينة أو قرينة يرتاح لها أساساً لحكمه، أو حين يقدر العقوبة وفقاً لما يوحي به إليه اقتناعه بما يحيط بالفعل والمتهمين من ظروف وملابسات، إنما يعمل نظره ورؤياه وتتحكم به حالته المعنوية، ومن ضمن عناصر هذه الحالة رد فعله الشخصي قبل نظر القضية وأثناء نظرها.

فكيف يستطيع القاضي، بعد هذه المحاكمة السياسية التي تابعها معه كل المواطنين، واستمع الى تعليقاتهم وأحس بمشاعر الإدانة التي انتابت كل من حوله، أو قرأ عن كل ذلك أن يحترم الأصل القضائي السليم الذي يحظر على القاضي القضاء بعلمه الشخصي؟ وهل تتوافر بكل هذه المعلومات التي استقاها القاضي من وسائل الإعلام أن يبقى على الصورة التي وقرت في أذهان الناس عن العدالة المتمثلة في ملاك معصوب العينين يمسك بميزان العدل؟ ألا يؤدي تكوين رأيه مسبقاً من خلال هذه المحاكمة السياسية إلى انحراف ميزان العدالة واختلاله؟

ومن هنا، فإن الدعوة إلى حماية العدالة من تأثيرات المساءلة السياسية أمام مجلس الأمة ينبغي أن توضع في المقام الأول، وأن يكون لها الأولوية على ما عداها من مصالح واعتبارات عند نظر الاستجواب، وإلا أصبحنا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولا نجد قولاً في حماية العدالة أبلغ من قول الإمام أبو مسلم الخولاني: «إنك إذا عدلت مع أهل الأرض جميعاً ثم جُرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك».

back to top