أكلة اللوتس
عن الذاكرة، الكتابة والنسيان (2)

نشر في 22-04-2009
آخر تحديث 22-04-2009 | 00:01
 زاهر الغافري ما الذي جعل شاعراً كهنري ميشو يقول هذه العبارة المخيفة ان مجرد التفكير في كتابة قصيدة يكفي لقتلها ، أليس الخوف من استعادة ذاكرة قبلية، بتخطيط مسبق، وبالتالي اعاقة الوصول الى منبع النسيان، ألم يقُل ابن عربي امحُ ما كتبت، وانسَ ما قرأت ، ألا يذكّرنا هذا أيضاً بموقف أبي نواس بشأن حفظ الأبيات الشعرية ثم نسيانها، ثم أليس هو ـالشاعر المديني المجددـ الذي أحدث تلك القطيعة الساخرة مع ذاكرة الأطلال.

ينبغي ألا يُفهم من كلامي أن الكتابة تأتي من مطرحٍ خالٍ من التجربة، بل على العكس، من التجربة وقد تشذّبت، والذاكرة وقد تصفّت، والنسيان وقد نضج، بحيث تقف نيموسين ـآلهة الذاكرة الإغريقية، وأم آلهة العلوم والفنون جميعاًـ أقول تقف هناك على الباب، لتلقي عليك أخيراً، تحية المرور الصادقة.

هل يمكن للنسيان أن يكون مميتاً، أو عائقاً للكتابة؟ أجل، عندما يكون بلا فاعلية، عندما يصبح النسيان أرضاً غير خصبة للذاكرة والمخيلة، تعلمنا التجربة دائماً أن نعيش الكتابة، فيها ومعها، أن نعيد اجتراحها بأكثر الاساليب صدقاً وحرية وشراسة أيضاً، في هذا المقام تفيدنا، الاوديسا، لهوميروس في جزئها المتعلق بمغامرة عودة أًوديس الى وطنه وزوجته بنيلوب، التي تجمع حول بابها الخطاب، يتعرض أُوديس الى مصائب كبيرة وكثيرة، نذكر منها واحدة مما يعنينا هنا، عندما يصل أُوديس وأصحابه الى جزيرة آكلي اللوتس فيذهب أصحابه الى اللهو وأكل اللوتس الى أن يصابوا بلوثة النسيان، أعني نسيان وطنهم والمقصد من الرحلة، لكن أوديس الذي يلعب هنا دور الذاكرة، يذهب اليهم ويحثهم على الكف عن ذلك والعودة الى السفن ومواصلة الرحلة، وهذا ما يحدث. لعبت الذاكرة هنا، دور المنقذ، لكن لنتخيل أن أوديس شارك أصحابه أكل اللوتس، أكان سيعود الى وطنه وينتقم لزوجته؟

ها انتم ترون معي أن شجرة الذاكرة، تنمو في جزيرة النسيان تلك، هكذا أيضاً يعود الكاتب الى وطنه (الكتابة) ـوهل من وطن آخر للكاتب غير الكتابة؟ـ بعد أن مرّ من جزيرة النسيان.

لننتقل في هذه التأملات الى مستوى آخر ـ لكن قريب ـ من القول، ذكرت سابقاً الغياب والموت، ويحضرني الآن مقطع شعري لأكتافيوباث في حرية مشروطة بترجمة رائعة لمحمد علي اليوسفي. يقول فيه:

يتملكني دائماً في منتصف القصيدة شعور بالهجر، يغادرني

كل شيء، لا أحد الى جانبي، ولا حتى العينان اللتان تتأملان

ما أكتب، من خلف ظهري.

لا يوجد ظهر ولا وجه، الحروف تتمرد، لا يوجد بدء ولا منتهى،

ما من جدار يتوجب القفز عليه

القصيدة ساحة مقفرة .

ان الإحساس بالغياب والفقدان والعزلة ـ في نظري ـ من أكثر الأحاسيس أصالة في الكتابة، ذلك لأن الامتلاء عادة ما يعكس حضوراً طاغياً للحياة، وإذا كانت القصيدة ساحة مقفرة فلأن ما يحضر فيها، ليس الشيء بل ظله، وغيابه، ما يحضر هو أثر القفر نفسه، كما قلت في البداية، وهذا الأثر قريب من التلاشي والموت.

ألم يحس الشاعر في هذه القصيدة بالعزلة والصمت؟ من ناحيتي أُجيب: بلى.

يذهب موريس بلانشو، في تأملاته النقدية الى رفع الموت، العزلة، الى مرتبة الأُس، في الكتابات الإبداعية العظيمة. وإذا كان الكاتب يكتب في ليل الوعي، فإن بلانشو يلح على غياب العالم عندما يتعلق الأمر بالكتابة، أي على نسيانه، وبلانشو لا يُشير هنا إلا إلى الكتابة الأصيلة، أي الى بروست، ساد، لوتريامون، ريلكة، ورينيه شار... إلخ.

والآن ما الذي يجعل من الرواية العربية فقيرة إلا في ما ندر، الى هذا الحد؟ ألِأَن الكاتب العربي يريد أن يصب ذاكرته دفعة واحدة، من دون مسافة من النسيان، جذر المخيلة ذاك.

back to top