السيرة الذاتية لطائر الصحراء-33

نشر في 11-06-2008
آخر تحديث 11-06-2008 | 00:00
No Image Caption
 سليمان الفليح ذكرْت في الحلقة السابقة، أنني والباحثة المجرية «آن» نزلنا من سيارة الأجرة وانطلقنا للبحث عن الغجر؛ فوقفت على رابية عالية ورحت أدندن بالقصيدة التالية:

تطلين من شاهقات الجبال / يغازلك البحر مزهوة تبتسمين

فيهتاج لما يبللك في المساء المطر / ويرقص «فرحان» لما يرى بانكسار

دخان تلك القرى / الهاجعات بأحضان تلك السفوح «المزنرة»

الخصر بالورد / والزعتر السرخسي

يهزك في البعد صوت طبول الغجر

صلنفة أين الغجر / أما عبروا واديك يزدان بـ«الشيح» و«الديدحان» وحطوا عليه كتلك الطيور التي تجثم الآن

ترتاح بعض الدقائق / ومن ثم تطلق في الأفق صيحاتها

قبل أن يهبط الغيم فيه / لتبدأ قبل ابتداء الشتاء

السفر... / صلنفة أين الغجر؟!

ألم يعبروا الجسر نحوك / يسقون بغالهم البيض

أو يغتسلن صبياتهم من عناء المسافات

يغمسن أجسادهن حتى النهود التي تنقص الماء «بردانة»

كي تذيب الجليد / وتبعث دفئاً بقلب النَهر

ويخرجن كيما يجففن فوق الصخور الضفائر

تلك اللواتي يشابهن في الامتداد الحبال

ويعبقن بالورد والند و«الشمطري»

وضوع عبير الزَهَر... / آه إذ ما اهتززن

وينفضن أجسادهن / تماماً كما تنتفض في الصباح الحمائم

ينظرن ذات الشمال وذات اليمين / وينهضن رفاً فـ«رفاً» إذا ما شممن الخطر

صلنفة أين الغجر؟! / سأصرخ في وجهك البض حتى تقولين أين الغجر...

صلنفة أين الغجر؟! / وإذ ذاك صاحت وهمهم في الأفق طير:

ستلقى الغجر / يغنون فوق البغال المحناة أعرافها باتجاه الشمال

لـ«باب الهوى» / تطاردهم ثلة من رجال الجمارك والأمن والحرس الدركي

ولكنهم كالعصافير في «الحُرش»

يختبئون وتبني عليهم خياماً غصون الشجر

وكانت حناجرهم تقطر الدم... آه

ولكنها الآن مملوءة بالأغاني الطوال

التي مثل أحلامهم تتسع / وكانت حناجرهم مثل أسنانهم تلتمع

ولكن صبياتهم عاريات / كفطر الحدائق

يتناثرن في الليل بين الحشائش

يلمعن تحت القمر / صلنفة عفواً وجدت الغجر

طبول الغجر / رباب الغجر / فؤوس الغجر

ثياب نساء الغجر / خيراً وجدت الغجر

أهياكل تحت الشجر

أنهيت القصيدة وكانت «آن» تقعد على صخرة وردية وتعزف على الناي بأصابعها الرقيقة الحاذقة أغنية حزينة، لم أكن أعرف أنها ترافق قصيدتي، نظرت إلى عينيها الزرقاوين وكانتا تفيضان بالدمع، ثم ضممتها ومسحت عن خدها الشاحب الدموع، وانحدرنا إلى الساحل نجري كزوج من الأيائل المتوحشة، وأنا أكتم أغنية صغيرة في القلب تقول كلماتها القليلة:

و«آن» التي من بلاد المجر / برونزية مثل برج النحاس

نبيذية الوجه، ممشوقة / تعشق العطر والزهر حتى الجنون

وتهوى التسكع تحت المطر / وتنسل من شرفة الغيم مهمومة

إذا ما اعتراها الضجر / ومن ثم تمضي تعدّ الخطى

فتجلس حيناً / وترقص حيناً / وحيناً تغني أغاني الغجر

ولما التقينا، صمتنا قليلاً / صمتنا طويلاً

صمتنا طويلاً / إلى أن أرتني بعينيّ «آن»

التي من بلاد المجر / زرقة البحر تغدو اخضراراً

وتزرق شيئاً فشيئاً / غصون الشجر

ثم اندفعت آن إلى الأمواج كحورية بحر أسطورية، تعود إلى زمن الإغريق واختفت في لجة الأزباد، بينما بقيت أنا على الساحل كبدوي يرعبه غموض البحر، ويعود إلى صحرائه القاحلة خالي الوفاض.

back to top