تبديد النضال الفلسطيني

نشر في 07-01-2009
آخر تحديث 07-01-2009 | 00:00
 بلال خبيز معركة «حماس»، كمقاومة، ليست المعركة الأولى للشعب الفلسطيني ضد إسرائيل. قبل أن تولد «حماس» نفسها، خاض الشعب الفلسطيني حروباً كثيرة ضد إسرائيل. وخاض صراعات سياسية على جبهات أخرى عربية ودولية كان بعضها دامياً أيضاً. لكن ما حققته الحركة الوطنية الفلسطينية من إنجازات كبرى تم تتويجه في نهاية التسعينيات وبداية القرن الحالي بتحويل الدم الفلسطيني من سلعة رخيصة يستطيع أي كان أن يهرقه بوصفه الأضحية الأنسب التي لا تكلف الكثير، إلى دم نفيس جداً. ومازال كثيرون يذكرون حجم الانتصارات الفلسطينية على مستوى الرأي العام العالمي في الانتفاضة الأولى التي شارك فيها الشعب الفلسطيني في الداخل، متحداً موحداً تحت قيادة ياسر عرفات. بل إن حركة «حماس» نفسها خاضت نضالاً سلمياً مريراً ومعبراً في تلك الآونة، وربما تمثلت انطلاقتها الأهم على مستوى إثبات حضورها السياسي والشعبي في فلسطين في بدايات التسعينيات من القرن الماضي يوم أبعدت إسرائيل قيادات «حماس» إلى لبنان وأقام هؤلاء مخيم الاعتصام الشهير في «مرج الزهور» اللبنانية. والحق أن معظم قيادات حركة «حماس» في الداخل كان في عداد هؤلاء المبعدين.

لا شك أن قوات الاحتلال الإسرائيلي كسرت بعضاً من شوكة الانتفاضة الفلسطينية، لكن ما نتج عن تلك الانتفاضة كان بالغ التعبير والدلالة. فمنذ ذلك الحين بات الدم الفلسطيني غالياً ولا يسهل إهداره على أي كان. حتى إسرائيل نفسها أصبحت تجد حرجاً بالغاً في إهدار هذا الدم، ومازال العالم كله يذكر الحدث الإعلامي الفاصل بين حالين، يوم بثت شبكات التلفزة شريطاً مصوراً لجنود إسرائيليين يكسِّرون عظام متظاهرين فلسطينيين عن سابق تصور وتصميم.

بين تكسير العظام والقتل ثمة بون شاسع من دون شك. لكن هذه الحادثة إلى حوادث أخرى مشابهة من حيث قسوتها، جعلت إسرائيل تتردد فيما بعد في مواجهة انتفاضات الحجارة، ويومها لم يكن الانتصار الفلسطيني يحسب بعدد الجنود الذين شُجت رؤوسهم بحجارة المتظاهرين من الفلسطينيين، بل بسلمية ومدنية التظاهرات في مواجهة عسكرة ووحشية الجيش الإسرائيلي الذي يقمعها.

استطاع الفلسطينيون في تغريبتهم الطويلة والمُرَّة أن يحققوا إنجازين بالغي الأهمية في مواجهة عدوهم. فهم تسلحوا بالمبادئ العامة لحقوق الإنسان وفرضوا على العالم كله أن يشمل الفلسطينيين بها. وهم من جهة ثانية أثبتوا أنهم يملكون قرارهم السياسي في أياديهم وأنهم ليسوا شعباً مهمته التضحية فقط والموت لحساب الآخرين. وكان التعبير الأجلى عن هذين الإنجازين، تمكُن القادة الفلسطينيين من الوصول إلى أعلى المنابر الدولية من جهة أولى، واختراق الجدار الإعلامي الأصم في الغرب الذي كان منحازاً على الدوام وعلى نحو أعمى للاحتلال في مواجهة الذين يخضعون له. وما من شك أن تاريخ المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي شهد أخطاءً كثيرة، وتخللته سقطات لم يكن لها مبرر، لكن المحصلة النهائية في هذا النضال تمثلت بالمعادلة الآتية: تحول الشعب الفلسطيني من مجرد سكان يسكنون الأرض الفلسطينية في عام 1948 إلى شعب له كيان سياسي وحقوقي يمثله، وهو منظمة التحرير الفلسطينية، ويطالب بأن يقيم دولته على أرضه بقدر لا بأس به من النجاح.

اليوم ثمة مفارقتان تجلتا في هذه الحرب المتجددة على الشعب الفلسطيني. وهما مفارقتان تفيدان أن المقاومة الحالية تنفق من رأسمال الحركة الوطنية الفلسطينية السابقة وتكاد تبدد هذا الرأسمال برمته. هذا من ناحية أولى، أما من الناحية الثانية، فتبدو المقاومة الفلسطينية الحالية أقل الأطراف حرصاً على الدم الفلسطيني. ليس الحديث عن إشعال هذه الحرب خدمة لإيران وسوريا حديث خرافة كما يعلم الجميع، وهو ما لم تقدم عليه الحركة الوطنية الفلسطينية طوال تاريخها. فلم يكن النضال الفلسطيني مجيَّراً لأحد، خارج فلسطين لا مباشرة ولا بالواسطة، مثلما هي الحال عليه اليوم. ولم يكن الدم الفلسطيني مرة رخيصاً إلى هذا الحد مثلما هي الحال عليه اليوم. وليس خافياً أن مقاومات اليوم لا تخفي فرحها لسيلان الدم الفلسطيني، بوصف سيلان الدم هو المعبر الوحيد لانتصار الدم على السيف، كما لا تخفي إنحيازها إلى محور من محاور الصراع في المنطقة، يضع القضية الفلسطينية في أسفل القائمة، في وقت كانت تقع على الدوام في مقدم القضايا. بل إن حركة «حماس» لا تخفي شعورها بأنها الحلقة الأخيرة والأقل أهمية من حلقات المحور الذي تتربع إيران على رأس قائمته تليها سوريا فـ«حزب الله».

مع ذلك، كان أجدر برئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل أن يقلل من النكات في مؤتمره الصحافي الذي حذر فيه إسرائيل من الهجوم البري من مكتبه في دمشق، ذلك أن الدم الفلسطيني لم يصبح بعد رخيصاً إلى هذا الحد.

* كاتب لبناني

back to top