ألمانيا كمان وكمان (2-4): أينشتاين وماركس وعزمي بشارة!
تعتز جامعة هومبولدت بحصول 29 عالماً من خريجيها على جائزة نوبل في الفروع المختلفة للجائزة منهم هنريكوس فانتهوف في الكيمياء، وتيودور مومسن في الآداب، وألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية في الفيزياء.خفق قلبي من جديد عندما توجهت إلى جامعة هومبولدت العريقة التي درست فيها، ومنها حصلت على شهادة دكتوراه الدولة الألمانية في الاقتصاد السياسي قبل أربعة عشر عاماً بالضبط، وفيها عملت محاضراً بعد الانتهاء من الدكتوراه وقضيت فيها أجمل سنوات عمري.نظمت الجامعة مؤتمراً عن «ألمانيا وبدائل التنمية في العالم الثالث» دعيت إليه، وها أنا ذا أقف لأتأمل حيث وقفت دوماً في السابق. تطالعني بوابة الجامعة الرئيسة وكأني أستعيد حلماً أو شريطاً سينمائياً، لم تتغير كثيراً عن أول مرة رأيتها حتى الآن: بابها العالي وقبتها الشامخة وتمثال فيلهلم فون هومبولدت، الذي سميت الجامعة باسمه، يقف بعزم في منتصف الباحة الرئيسة.تدلف من الباب الداخلي إلى مبنى الجامعة فيطالعك السلم الرخامي المميز لمبنى الجامعة، وعلى الجدار الملاصق لدرجات السلم وضعت كلمة الفيلسوف الألماني الأشهر كارل ماركس بالحرف العريض: «فهم الفلاسفة دائماً العالم بشكل مغاير، ولكن المحك يكمن في تغيير هذا العالم». تمر في ذاكرتك تلك المقولة بالغة الحصافة التي تقول: «بلا قلب من لا يصبح يسارياً في العشرين من عمره، وبلا عقل من يظل يسارياً في الأربعين من عمره!». مازالت كلمات ماركس خريج جامعة هومبولدت هناك، فألمانيا لم تتعامل مع الماركسية بوصفها مذهباً سياسياً غابراً فقط، بل منهجاً عقلانياً ألمانياً يصب في نهر الفلسفة تلك التي يعتبرها الألمان «ألمانية الحاضر» بامتياز، منذ عصر هيغل وماركس ومروراً بالفلاسفة شوبنهاور ونيتشه وكانط وكل عباقرة الفلسفة التي أنجبتهم هذه البلاد الصارمة الجمال. ربما ينبغي عرفاناً بجميل جامعة هومبولدت على تحصيلي العلمي والأكاديمي أن أذكر أسماء بعض خريجيها لتعرفوا المعنى الكبير الذي تمثله الجامعة لسمعة ألمانيا الدولية وقوتها الناعمة: أوتو فون بسمارك السياسي الذي وحد الأقاليم والإمارات الألمانية المتنافرة في دولة واحدة تحت قيادة بروسيا (الاسم القديم لبرلين)، وكارل ماركس الفيلسوف صاحب الفلسفة والعقيدة السياسية الأشهر، والفيلسوف الألماني الشهير لودفيج فويرباخ والعشرات من مشاهير الألمان والأوروبيين، ومن العرب يحضرني في هذا المقام أيضاً المناضل والمثقف العربي الكبير عزمي بشارة.تعتز جامعة هومبولدت بحصول 29 عالماً من خريجيها على جائزة نوبل في الفروع المختلفة للجائزة منهم هنريكوس فانتهوف في الكيمياء، وتيودور مومسن في الآداب، وألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية في الفيزياء. تذهب إلى مقصف الجامعة لتتناول القهوة الألمانية ذات المذاق الخاص بين القهوة الغربية، ترتشف فنجانك وتلاحظ أن الحلقات الطلابية في المقصف تهتم بمناقشة أبعاد الأزمة المالية الطاحنة التي تجتاح العالم. ويأخذ الألمان موضوعات السياسة على محمل الجد، ويقرأ الألماني العادي بشراهة في أوقات فراغه وأثناء سفره اليومي من بيته إلى مكان عمله، ولذلك فلا يمكن مقارنة الثقافة العالية لرجل الشارع الألماني بتلك المتواضعة عند نظيره الأميركي، وتعد العولمة التي خرجت الأزمة المالية العالمية من رحمها، الأساس المنطقي عند الانطلاق في تحليل الجوانب المتعددة للأزمة؛ فلولا العالم «المعولم» لما أصبحت تداعيات الأزمة حاضرة بهذه الشدة في أربعة أنحاء المعمورة.ومن مظاهر ذلك الترابط العضوي أنه عندما ينهار مصرف كبير في الولايات المتحدة الأميركية فإن أعراض نوبة البرد تظهر على مصارف العالم الثالث وألمانيا التي تشرع في تناول مضادات الرشح على الضفة الأخرى من الأطلنطي، حيث ظهرت الأزمة وحيث تضرب جذورها بعمق أيضاً. أفلحت إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جورج دبليو بوش في صرف الانتباه عن العولمة بسبب قرع طبول «الحرب على الإرهاب»، وبسبب الحروب التي اشتعلت في الشرق الأوسط في أفغانستان والعراق غاب تحليل «العولمة» عن النقاش السياسي الدولي، ولكن الأزمة المالية العالمية أعادت الأمور إلى المربع رقم واحد. لم تعد «العولمة» ظاهرة كما كانت تسمى قبل عقد من الزمان، إنها واقع يتنفسه العالم ويعيشه سواء في الشرق الأوسط الصاخب أو حتى هنا في برلين الهادئة!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية- القاهرة.