النقد ودوره

نشر في 13-03-2009
آخر تحديث 13-03-2009 | 00:00
 محمد سليمان قبل أكثر من عقدين نشرت مجلة الناقد التي كانت تصدر في لندن ملفاً عن النقد تضَمّن عدداً من شهادات المبدعين العرب عن النقد وأثره على الحياة الإبداعية في ذلك الوقت، ونشرت لي شهادة دارت حول انشغال النقد الحديث بذاته وأدواته وتياراته المختلفة عن الأدب والشعر الأمر الذي أدى الى إقصاء القراء وعزل المبدعين وتهميش إبداعهم. وكنت قد لاحظت ولع معظم الباحثين والأكاديميين والنقاد بنقل وترجمة وتطبيق المناهج النقدية الحديثة على النصوص الإبداعية العربية، مستعينين أحياناً بأشكال هندسية مختلفة وبمصطلحات عديدة غامضة وبلغة معقدة أفلحت فقط في صد القارئ وإرهابه وزعزعة ثقته بنفسه وبثقافته وبقدرته على التعامل مع النص الأدبي والاستمتاع به.

وذكَّرني بهذه الشهادة كتاب «الأدب في خطر» الصادر في باريس عام 2007 لواحد من رواد النقد الحديث هو تزفيطان طودوروف، الذي هاجر من بلغاريا إلى فرنسا عام 1963، وصدرت له كتب عديدة من أهمها «الشعرية- نقد النقد- فتح أميركا»، وهو في كتابه الأخير يطلق صيحة تحذير محاولاً تصحيح المسار النقدي وتذكير النقاد بمهامهم وواجباتهم عندما يقول: «قراءة القصائد والروايات لم تعد تدفع التلاميذ في المدارس إلى التفكير في الوضع الإنساني والفرد والمجتمع والحب والكراهية والفرح واليأس بل للتفكير في مفاهيم نقدية تقليدية أو حديثة».

ومن الطريف أن طودوروف اكتشف هذا الانحراف عندما استجاب كما يقول لاستغاثات أولاده، وراح يساعدهم عشية الاختبارات المدرسية أو تسليم الفروض وكان لإرشاداته أثرها السلبي: «أخذت أشعر بشيء من التكدر وأنا أرى أن إرشاداتي وتدخلاتي نتج عنها درجات تميل إلى دون المتوسط».

على مدى ثلاثة عقود انشغل النقاد بامتلاك وتحديث الأدوات النقدية وترجمة كل جديد في هذا المجال لكيلا يُتهموا بالتخلف، لكنهم نسوا أن هذه الأدوات هي مجرد وسائل تعين الناقد على بلوغ غاية محددة تتلخص في قراءة العمل الأدبي وتأويله واكتشاف محاوره ودهاليزه، ومن ثم الأخذ بيد القارئ ومساعدته على دخول عالم الكاتب وسبر أغواره، وهذا النسيان حوَّل الوسائل إلى غايات وساعد البلبلة والفوضى على الانتشار، خصوصا عندما أعفى النقد نفسه من الحديث عن قيمة العمل وأهميته وحصر دوره في الوصف والتحليل.

وتغييب القيمة يعني في واقع الأمر مساواة الرداءة بالجودة، وإهدار حقوق المبدعين الموهوبين، وإفساد الحياة الإبداعية... ويقول طودوروف في كتابه الذي ترجمه عبدالكبير الشرقاوي ونشرته في المغرب «دار توبقال» 2007: «لا ينبغي للوسيلة أن تصير غاية، ولا للتقنية أن تنسينا هدف الممارسة النقدية، بل لابد من التساؤل عن القصدية النهائية للأعمال الأدبية التي نراها جديرة بالدراسة». وجدارة عمل أدبي ما بالدراسة تعني في الواقع أهميته وقيمته التي تتيح فهماً أفضل للإنسان والعالم وتعينه على اكتشاف ما يثري وجوده.

امتلاك الأدوات النقدية لا يصنع بالضرورة ناقداً حقيقياً، فهذه الأدوات متاحة للباحثين والدارسين والمهتمين، لكن غير المتاح هو امتلاك قدرة فذة على التذوق، واكتشاف العمل الأدبي الجميل، ومساندة الموهوبين. ويتفاوت حجم هذه القدرة من شخص إلى آخر، ويُفضي هذا التفاوت إلى قراءات عديدة للعمل الأدبي تثريه وتثير الجدل حول قيمته وأهميته، ويمكن القول إن في داخل كل مبدع حقيقي ناقد جاد يتطور وتتعاظم قدراته وأثره على إبداعه، ويتجلى هذا الأثر في المحو والتمزيق وإعادة الكتابة مرة بعد أخرى، وأذكِّر هنا بعبارة الروائي الكولومبي ماركيز «تُقاس قدرات الكاتب بحجم ما يمزقه لا ما ينشره»... والعبارة تشير إلى دور ذلك الناقد القابع في أعماق المبدع، الذي لا يسهل غشه أو الاستهانه به، والذي يحمي المبدع ويجبره على المثابرة والإصرار والتحدي.

«ينبغي تشجيع القراءة بكل الوسائل بما في ذلك قراءة الكتب التي ينظر إليها النقد الاحترافي بتعالٍ، إن لم يكن باحتقار» حسبما يقول طودوروف في كتابه المشار إليه، وأظنه بعد عقود من دراسة اللغة والأدب والنظرية النقدية يدعو النقاد إلى تصحيح مسارات النقد وإلى المساهمة في صناعة القارئ الذي ينشد عادة في مراحل الطفولة والصبا إلى الكتب الشعبية المسلية التي توزع أحياناً ملايين النسخ، ولكنها تضع القارئ على أولى درجات سلم القراءة.

* كاتب وشاعر مصري

back to top