المحرومون والسائلون

نشر في 26-01-2009
آخر تحديث 26-01-2009 | 00:00
 د. حسن حنفي ومن المهمشين مع المساكين واليتامى وأبناء السبيل المحرومون والسائلون، أي الشحاذون بلغة العصر، وقد قرنهما القرآن معا في نفس الفئة، فقد ذكر المحروم في القرآن أربع مرات، اثنتين بالمفرد، واثنتين بالجمع، وهو لفظ شائع في لغتنا العربية المتداولة، المحروم والحرمان. وقد ورد بثلاثة معانٍ: الأول، حق المحروم في أموال الأغنياء «وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»... «وَالَّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»، فالأمة واحدة، وما بين أيديها مستخلفة فيه، وللإنسان حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حق الاستغلال والاحتكار والاكتناز، فوجود أغنياء ومحرومين في المجتمع الواحد مخالف لجوهر الإيمان.

والثاني، الفقد، فتحطيم الزرع فقد للثروة، وضياع للأصول «إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» إثر الكوارث الطبيعية وعدم أخذ الحذر من أن ما ينتجه الإنسان هش، وعرضة للضياع.

والثالث، الضلال «فَلَمَّا رَأوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» عندما يظن الناس أن ما ينتجونه من زرع ليس عرضة للتلف، وأنه من الأفضل إعطاء المساكين والمحتاجين منها بدلا من منعهم عنها فيأتيها الخراب من السيول أو الجفاف، بالغرق أو الحرق.

وقد أتى لفظ «حرام» من نفس الاشتقاق، فالحرام منع النفس عن الهوى والضرر، كما أن المحروم ممنوع من حاجاته، فالحرام الأول إيجابي لأنه حماية للنفس، والحرمان الثاني سلبي لأنه نقص في الحاجات. وفي سلوكنا اليوم طغى المعنى السلبي على الإيجابى بالإكثار من الحرام وعدم رعاية المحروم، وفي الأعمال الفنية هناك فيلم «الحرام» ولا يوجد فيلم عن «المحروم»، وقد يقترف المحروم أحيانا الحرام كى يقيم أوده، والضرورات تبيح المحظورات.

وقد ورد لفظ «السائل» أيضا في القرآن بمعنى طالب العون أو الشحاذ ست مرات بأربعة معانٍ متداخلة: الأول، حق السائل في أموال الغني «وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» أسوة بالمحروم، وبالرغم من أن السؤال طلب ولكن الحق يُعطى دون طلب تعففاً من السؤال، ويتكرر نفس المعنى في آية أخرى «وَالَّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» في قضية خبرية وليست إنشائية إقرارا لواقع، وليس تمنياً لواجب. والثاني، تكريم السائل وحسن معاملته وعدم نهره «وَأمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ»، فالسائل صاحب حق، والمسؤول عليه واجب، والسؤال اتجاهٌ نحو الآخر، والمسؤول اتجاهٌ مقابلٌ نحو السائل تأكيداً للتضامن الاجتماعي ولوحدة الأمة الإسلامية.

والثالث، مقاومة هوى النفس وشحها من أجل الكرم مع السائل، فالنفس مجبولة على الأثرة وفي حاجة إلى جهد من أجل تحولها إلى الإيثار «وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ»، فالسائلون مثل الأقرباء واليتامى والمساكين وابن السبيل والأسرى.

والرابع، المساواة في معاملة السائلين، وفي العطاء لهم، وإطعامهم دون تفضيل واحد على آخر، أسوياء في السؤال، وأسوياء في العطاء «وَقَدَّرَ فِيهَا أقْوَاتَهَا فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ». هكذا فعل الله عندما خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها الرزق والقوت، وخلق البشر وجعلهم فيها سواء.

ومن نفس الاشتقاق يأتي «السؤال» و«التساؤل» و«المسؤول»، والسؤال معرفي للعارف، والتساؤل مطلب ذاتي، والمسؤول هو الذي يتحمل المسؤولية والوفاء بالعهد والوعد والشهادة وتحقيقها.

ويكثر عدد الشحاذين يوماً بعد يوم في البلاد الإسلامية الفقيرة، يقفون في الشوارع وعلى نواصي الطرقات، في البرد والعراء، وفي الصيف والقيظ. تتركهم الدولة بلا رعاية أو تقبض عليهم باعتبارهم مجرمين يسيؤون إلى سمعة مصر، ويشوهون صورتها أمام السياح الأجانب، ويتفننون في أساليب الشحاذة واللبس والماكياج والعرج والعمى والسير، استنادا إلى الابن أو البنت أو الجلوس على كرسي متحرك، وعصب العينين، وربط الرأس والتلعثم في النطق لإثارة الشفقة لسائقي العربات الفارهة، وهم يتنقلون بينها في إشارات المرور.

وكتبت الأعمال الأدبية لتصوير أحوالهم مثل «شحاذون ونبلاء» تبين الجوانب الإنسانية الإيجابية فيهم بالرغم من ظروفهم الاجتماعية السيئة، ومثل «الشحاذ» عن السائل عن معنى الحياة، وليس فقط السائل مثل «فريديانا»، والذين يتحولون إلى أسياد، ويحاولون سلوك الأسياد، ولكن الطبع يغلب التطبع، والأصل على الفرع.

وقد نقد محمد إقبال من قبل فلسفة السؤال ويعني الشحاذة، من يسير في الطرقات ماداً يديه إلى السماء حتى يرزقه الله من حيث لا يحتسب، دون أن يعمل بيديه في الأرض ليأكل من عمله وإنتاجها، ويريد توجيه أعين السائل من السماء إلى الأرض، من الخالق إلى المخلوق، ومن السائل إلى المسؤول.

* كاتب ومفكر مصري

back to top