قانون المحافظات وألغام الدستور العراقي

نشر في 31-10-2008
آخر تحديث 31-10-2008 | 00:00
 د.عبدالحسين شعبان أقرّ الدستور العراقي الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه لحكومة يفترض فيها أن تستمر أربع سنوات في 15 ديسمبر من العام نفسه، مبادئ التعددية، لاسيما في المادة الثالثة منه. وذهبت المادة الرابعة إلى إقرار التعددية في اللغات أيضاً، بما فيها حق التعلّم بها، خصوصاً في المناطق التي فيها أغلبية سكانية ورغبة بذلك. وأقرت المادة 15 المساواة في الحقوق والحريات، إضافة إلى مواد أخرى.

ولعل الدستور من حيث التوجه العام اعترف بمبادئ المواطنة والمساواة أما القانون والعديد من مبادئ حقوق الإنسان، رغم احتوائه على ألغام كثيرة تنسف أحياناً الحقوق والحريات الممنوحة، التي تعطيها بيد وتسحبها باليد الأخرى، حين تعلّقها على قضايا تتعارض معها نصاً أو تفسيراً أو تأويلاً.

ومن الإشكالات التي ستثير الكثير من الجدل هي نوع النظام الفدرالي «الاتحادي» الذي تبنّاه الدستور، لاسيما أنه أعطى الحق لكل محافظة أن تكون إقليماً ولها دستورها الخاص، وفي حال تعارض النصوص الدستورية والقانونية بين دستور الاتحاد ودستور الإقليم، فإن الغلبة لدستور وقوانين الإقليم بدلاً من دستور وقوانين الاتحاد، كما هو في جميع الأنظمة الفيدرالية في العالم.

ومنح الدستور الفيدرالي حقوقاً للأقاليم تقترب من الجزء المعطل مقارنة بالدستور اللبناني وتجاربه المريرة، مبرراً ذلك بحماية حقوق الأقلية، والمقصود بذلك المكوّن الثاني «الكردي» بعد المكوّن العربي، كما تشير إلى ذلك الأوراق التفسيرية لمناقشات الدستور وما نشر عنه، ولعل مبررات ذلك هو الخوف من تغوّل الأغلبية عليها وفرض إرادتها، لاسيما ما عاناه الأكراد تاريخياً.

إن الكثير من نقاط الاحتكاك التي صادفت المتحاورين بخصوص قانون المحافظات والأقضية والنواحي، يعود مرجعها إلى الدستور نفسه، وقسم منها إلى شكل النظام الفيدرالي الذي تم تبنّيه، فكما نعلم في القانون الدستوري، هناك قواعد عامة تحكم علاقة السلطات الاتحادية بالسلطات الإقليمية، تتسع أو تتقلص تبعاً للعلاقة التي يتم تنظيمها دستورياً منها: وحدانية القوات المسلحة ووحدانية العلاقات الدبلوماسية الدولية ووحدانية العملة والخطط المالية والاقتصادية الكبرى، ووحدانية التصرف بالموارد الأساسية مثلما هو النفط والغاز وما سواهما وتنظيم طرق استفادة الأقاليم منهما، إضافة إلى توزيع الثروة، أما قضايا التعليم والصحة والبيئة والسياحة والرياضة والبلديات وما سواهما فهي من صلاحيات السلطات الإقليمية.

ولعل هذه الأمور هي مصدر خلاف لا في النصوص الدستورية فحسب، وبين الكتل والمكونات الأساسية، بل في التفسير والتأويل، الذي يمتد من الدستور نفسه، ليشمل قانون النفط والغاز وعلاقة البيشمركة بالقوات المسلحة، إضافة إلى قانون المحافظات ومشكلة كركوك وغيرها.

فالبيشمركة تشكيل خاص أصبح نظامياً وهو سابق على تأسيس القوات المسلحة «الجديدة» بعد الاحتلال، ولا يراد له أن يخضع لها إلا شكلياً، إذ لا تستطيع السلطة الاتحادية تحريك جندي واحد من دون موافقة السلطة الإقليمية. أما الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، فقد كان النص الدستوري بشأنها ملتبساً حين اعتبرها ملكاً للشعب، لكنه منح حق إدارة الحقول المستخرجة إلى السلطات الفدرالية بالتعاون مع سلطات الأقاليم، أما في الحقول غير المستخرجة، فقد وضع إدارتها بيد الأقاليم بالتعاون مع السلطات الاتحادية، وحصل الاحتدام في الموقف حين وقعت سلطات إقليم كردستان على عقود لاستخراج النفط مع شركات أجنبية، فاعترضت وزارة النفط، بل هددت بعدم التعامل مع الشركات المذكورة أو تسهيل مهماتها في العراق، وهو الذي عطّل إمرار هذه الاتفاقيات من جهة، إضافة إلى قانون النفط والغاز نفسه من جهة أخرى.

وانفجرت مشكلة العلم العراقي الواحد الموّحد، حين اعترضت السلطات الإقليمية في كردستان من رفعه، وأصرّت على رفع علمها الخاص، إلى حين تغيير العلم العراقي، مثلما ظلّت مشكلة كركوك مستعصية على الحل، بل أحد ألغام الوضع العراقي، منذ وقت طويل، ولم ينفع إدراج حلول مقترحة لها في المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، أو ترحيلها إلى المادة 140 من الدستور الدائم، وهدد مجلس محافظة كركوك الذي يضم أغلبية كردية، يعترض عليه العرب والتركمان، بالانضمام إلى إقليم كردستان.

لقد كان تصويت البرلمان العراقي على قانون المحافظات والأقضية والنواحي، الذي ستجرى انتخابات على أساسه، محيّراً، فالدستور نصّ على حقوق الأقليات، وهو أمر لم ترفضه القوى والكتل الممثلة بالبرلمان، لاسيما الكبيرة منها، في حين أن إلغاء المادة 50 اعتبر إقصاءً للمكوّنات القومية والدينية، الأمر الذي دفع المسيحيين (الآشوريين والكلدانيين والسريان) للاحتجاج والخروج بتظاهرات استنكارية، مثلما احتج الصابئة والأيزيديون والشبك والأكراد الفيليون.

ولعل مشكلة كركوك المؤجلة، لاسيما بعد اقتراح ممثل الأمم المتحدة دي ميسورا، وهي مشكلة معتقة ومزمنة، إضافة إلى إلغاء المادة 50 رغم اعتراض ممثل الأمم المتحدة قد أعاد الكرة إلى المربع الأول، وأعقب ذلك استهداف المسيحيين في الموصل وقتل أحد عشر منهم، واضطرار نحو ألف (1500) عائلة إلى الهجرة طبقاً لتصريحات محافظ الموصل دريد محمد كشمولة، وهو ما يضع العملية السياسية برمتها أمام مخاطر جديدة وجدّية، خصوصاً بعد اتساع دائرة العنف خلال الأربعين يوماً الماضية، بما فيها التفجيرات والعبوات الناسفة والانتحاريات وعمليات القتل.

وحسب نسب تمثيل الأقليات فإن بغداد ستضم 3 مسيحيين و3 آخرين في نينوى، إضافة إلى يزيدي واحد وآخر من الشبك في محافظة الموصل، أما مسيحيو كركوك فسيكون لهم اثنان وكذلك اثنان في دهوك وواحد في أربيل وواحد في البصرة، لكن التفجيرات والاغتيالات الأخيرة أعادت إلى الأذهان ما تعرض له المسيحيون بشكل خاص، والأقليات بشكل عام، فقد تعرضت الكنائس والأديرة في الموصل وكركوك وبغداد والبصرة إلى تفجيرات، إضافة إلى الملاحقة والقتل، بل إرغامهم على تبني مواقف لا يرتضونها وأحياناً تتعارض مع تعاليم دينهم مثل فرض الحجاب على المسيحيات وإغلاق محلات بيع الخمور أو قتل أصحابها من المسيحيين أو قتل أصحاب صالونات الحلاقة لاسيما النسائية، تحت حجج وأسباب واهية، وهو الأمر الذي جعل أعداداً كبيرة منهم تفكّر بالرحيل، إضافة إلى العديد من أبناء الأقليات الأخرى.

فما الفائدة في نصوص دستورية صمّاء وحقوق على الورق وخرساء، في حين تجري عملية تصفية حقيقية لكياناتهم، الأمر الذي يضع المسؤولية في تفتيت الوحدة الوطنية العراقية على عاتق قوات الاحتلال، خصوصاً انفجار موجة العنف، إضافة إلى تمزيق النسيج العراقي، الذي يحفل بألوان فسيفسائية و«موزاييكية»، كان مصدر قوة للعراق المتنوع المتعدد، وهو ما يضع المسؤولية أيضاً على عاتق الحكومة العراقية، التي لم تستطع حتى الآن تأمين مستلزمات أولية لأي حكومة، تتلخص في حماية أرواح وممتلكات المواطنين وفرض النظام والأمن العام على الجميع.

وإذا كان هناك من مسؤولية تقع على عاتق الإرهابيين، لاسيما تنظيم «القاعدة»، فإن الحكومة ومعها القوات المتعددة الجنسيات قالت إنها تقوم منذ أشهر بحملة تنظيف لوجودها، الأمر الذي أثار شكوكاً كبيرة خصوصا اندلاع حالة من الرعب والهلع بعد عمليات الاغتيال المنظمة التي طالت المسيحيين.

ليس بإمكان المسيحيين أو سواهم من الأقليات تأسيس ميليشيات مسلحة أو صحوات وليس لديهم عشائر أو قبائل لتحميهم أو تدافع عنهم، وإذا لم تتمكن الدولة من تأمين ذلك، فمن سيفعل ذلك، لاسيما في ظل الفلتان الأمني والإرهاب وأعمال العنف. إن حماية المواطنين وتأمين سلامتهم وحياتهم وممتلكاتهم أولى من مناقشة درجة تمثيلهم في مجالس المحافظات أو الأقضية أو النواحي، وهي وإن كانت مهمة إلاّ أن الأمر ينبغي أن ينصرف للحماية أولاً ولإزالة الألغام من الدستور ثانياً وتأمين الوحدة الوطنية ثالثاً.

* كاتب ومفكر عراقي

back to top