ديوانيات الاثنين: الحدث ليس بعيداً ولا يمكن نسيانه (8)

موقعة الجهراء: السلطة تعتدي على المواطنين شكلت علامة فارقة في التحرك الشعبي وامتداداته الاجتماعية

نشر في 13-02-2009
آخر تحديث 13-02-2009 | 00:00


منذ تسعة عشر عاماً وتحديداً في الرابع من ديسمبر 1989، حين كانت الكويت تعيش زمنا مأزوماً بلا دستور، بدأت «الحركة الدستورية»، وهي تحالف شعبي موسع قاده 30 نائباً في مجلس الأمة الذي حُلَّ عام 1986، وفعاليات مبدعة من مختلف قطاعات الشعب الكويتي، المطالبةَ بإعادة العمل بالدستور الذي تم الانقلاب عليه وتعليق بعض مواده وفرض الرقابة المسبقة على الصحافة وقمع حرية التعبير في الثالث من يوليو 1986.

وبما أننا نعيش هذه الأيام في أجواء تأزيمية وحالة احتقان سياسي ملحوظ، وتتردد أقاويل هنا وهناك عن أن النية قد تتجه إلى انقلاب ثالث على الدستور، فإنه من الضرورة بمكان التذكير بما جرى في البلاد آنذاك عسى أن تنفع الذكرى.

على مدى هذه الحلقات تروي «الجريدة» قصة التحرك الشعبي بين عامي 1986 و1990.

«منعت وزارة الداخلية كل المظاهرات السياسية في الكويت بعد أن فرقت الشرطة مساء يوم الاثنين في إحدى ضواحي الكويت اجتماعاً سياسياً حضره عدة آلاف من المواطنين الذين طالبوا بعودة الحياة البرلمانية في البلاد. وقد صرح مصدر مسؤول في وزارة الداخلية بأن الوزارة قد اتخذت إجراءات لفض الاجتماع الذي دعي إليه في إحدى الديوانيات، ونشر هذا التصريح في الصحافة الكويتية يوم الثلاثاء. ويلاحظ أن الصحافة الخليجية قد غطت حدث المظاهرات بصورة واضحة، وقد استخدمت قوات مكافحة الشغب فيها القنابل الصوتية والعصي لمنع الناس من التجمع حول مكان الاجتماع في منطقة الجهراء، التي تقع على بعد 30 كيلومترا من مدينة الكويت».

الكويت في 10 يناير 1990 – وكالة الصحافة الفرنسية

لم يكن لاحتفالات رأس السنة في ذلك العام (1990) شكلٌ مختلف عن الأعوام الثلاثة التي سبقته، فكان منظر البلاد باهتاً ومواطنوها يتوجسون ريبة من تصرفات السلطة، وبدا جلياً خلال الأسبوعين الماضيين أن الانقسام في الرأي داخل الحكم قد حسم لمصلحة الجناح الأكثر تشدداً، والذي كان يرى ضرورة وقف التحركات السلمية لديوانيات الاثنين، وأصبح ذلك واضحا قبل عطلة رأس السنة بيومين في القرار الذي أصدره مجلس الوزراء في 28 ديسمبر 1989 قبل الموعد المقرر للتجمع في ديوانية أحمد نصار الشريعان في الثامن من يناير 1990، فنص القرار على «منع الدعوات العامة التي توجه لمناقشة موضوعات محددة في الدواوين الخاصة لما يمثله ذلك من خروج عن المفهوم التقليدي الإيجابي للدواوين والمستقر عليه عرفاً وقانوناً» بحسب نص بيان وزارة الداخلية الذي أصدرته في ذلك اليوم. وبعد أن رأى القائمون على الحركة الدستورية تراجع المتشددين بعد إغلاق ديوانية العنجري في 11 ديسمبر 1989 وسماح السلطة بانعقاد تجمعي مسجد فاطمة وديوانية المرشد، ساد الظن في أن التحركات الشعبية ستتم من دون منغصات أو عراقيل، لكن أحداث الجهراء في 8 يناير 1990 أثبتت عكس ذلك.

التحضير

كان المدخل لكل قادم إلى ديوانية أحمد الشريعان يمر عبر دوار نادي الجهراء الذي تحول في ذلك اليوم إلى ثكنة عسكرية من الشرطة والقوات الخاصة والحرس الوطني بشكل لم يألفه أهالي الجهراء أو أهل الكويت. ففي صباح ذلك، فوجئ أهالي قطعة 4 (أ) في منطقة الجهراء الجديدة بوجود أمني كثيف في المنطقة، ومع حلول الظهيرة حضر المئات من أفراد القوات الخاصة بآلياتهم الكبيرة من ناقلات جنود وتناكر مياه وباصات، وتجمعت في مواقف السيارات التابعة لمدرسة أم ورقة الابتدائية للبنات القريبة من ديوانية أحمد الشريعان. أعقب ذلك انتشار لأفراد القوات الخاصة وآليات الحرس الوطني في جميع شوارع القطعة في ما بدا كتحرك لردع سكان المنطقة من المشاركة في تجمع السابعة مساءً. وطوّقت القوات القطعة كاملة، وأغلقت كل الطرق المؤدية إليها ومنها، ووضعت نقاط التفتيش على مداخل الجهراء كافة، ولم يسمح لأي سيارة بدخول المنطقة إلا بعد إثبات سكن سائقها فيها من خلال البطاقة المدنية. ومع حلول الظلام واقتراب الموعد المقرر للتجمع بعد صلاة العشاء في السابعة مساءً، طوّقت القوى الأمنية مبنى ديوانية الشريعان واحتجزته ومن معه في الديوانية ومنعتهم من الخروج.

الصدام

وقف حضور يقدر بسبعة آلاف مواطن في جو شديد البرودة ومعهم النواب على مقربة من الديوانية، بعد أن استطاعوا دخول المنطقة بمساعدة أهالي الجهراء من خلال بعض الطرق الداخلية وبين البيوت، في حين وضعت القوات الخاصة طوقاً أمنياً بشرياً على بعد 100 متر من الديوانية، وبقي بعض من حضر باكرا محتجزا داخل الديوانية. وبعد أذان العشاء صلى الموجودون صلاة الجماعة، وأمهم فيها النائب مبارك الدويلة. وبعد نهاية الصلاة، حاول الجمهور التوجه نحو الحاجز الأمني البشري بغية التحدث إلى الشرطة وطلب السماح للمواطنين بالمرور والتوجه إلى الديوانية. وهنا سُمح للنائب أحمد الشريعان بالخروج من الديوانية والتوجه إلى الحشد. تعالت صيحات الجمهور الكبير مطالباً بالدخول. وأخذ الحاجز الأمني يتراجع قليلاً وسط تقدم الجماهير، بينما كان واضحاً في إحدى زوايا الحشد محاولة النواب إقناع رجال الأمن بالسماح لهم بالمرور. وفجأة، ومن دون مقدمات أو تحذير، انهالت هراوات وعصي القوات على الحشد، فكانت تضرب كل من هو أمامها وتتقدم نحو المشاركين لتفريقهم ودفعهم بعيداً عن الديوانية. وسُمع صوت دوي عالٍ لما قد يكون قنابل صوتية. تفرق بعض المتظاهرين، فلجأ بعضهم إلى بعض المنازل المجاورة، بينما اختبأ البعض الآخر خلف الأشجار في الشارع المقابل، ولم يتبعهم رجال القوات الخاصة الذين عادوا إلى مواقعهم ليكونوا طوقاً أمنياً جديداً.

كان ممن تعرضوا للضرب في ذلك المساء أحد رموز الحركة الوطنية النائب السابق محمد الرشيد، وهو في السبعين من عمره آنذاك، إضافة إلى نائب مدير عام جامعة الكويت الدكتور أحمد بشارة، وعبدالمحسن الكليب وجمال النيباري وناصر الغانم ووائل عبدالله العمر ورباح الرباح وعبدالهادي العجمي ومحمد القديري والعديدين غيرهم.

كان البعض قد حاول في تلك الفترة وبعدها تحليل إقدام السلطة على الاعتداء على المواطنين في تجمع الجهراء السلمي في تصعيد مفاجئ وغير طبيعي شكل علامة فارقة في التحرك الشعبي، فرأى فريق أنه كان بسبب نجاح الطرف المتشدد في أسرة الحكم بتسويق أفكاره وانتصاره في صراع الأجنحة، في حين رأى فريق آخر، أنه بالإضافة إلى ما سبق، كان بسبب ما لمنطقة الجهراء تحديداً من أهمية للسلطة، إذ كانت تعتبر ما اصطلح على تسميته بالمناطق الخارجية مناطق موالية لها، ويأتي وصول تحركات المعارضة السياسية إلى هذه المناطق إثارة لجمهور هذه المناطق ضد السلطة، وهو أمر لم يكن مقبولاً لديها مما أدى إلى استخدامها العنف.

ميكروفون الشرطة

بعد كر وفر بين قوات الأمن والمواطنين، ومداولات واتصالات من قبل الشرطة، توجه رئيس مجلس الأمة أحمد السعدون وعدد من النواب إلى العميد يوسف المشاري قائد القوات الموجودة، محاولاً حث الشرطة على التهدئة، ومحذراً من مغبة أن تتطور الأمور لتصل إلى ما لا تحمد عقباه، وتبين أن المشاري كان حريصاً على ألا تتأزم الأمور، فسمح للسعدون أن يتحدث إلى الجموع مستخدماً مكبر الصوت الخاص بدورية الشرطة قرب دوار نادي الجهراء على مقربة 500 متر من الديوانية، حيث بدأ المواطنون بالتجمع مجدداً. وفعلاً، توجه السعدون إلى الدورية وتناول المكبر محدثاً آلاف المواطنين المتجمهرين في الشارع، فشكرهم على تفاعلهم وحضورهم واستنكر، عبر مكبر الصوت الخاص بالشرطة، الاعتداءات التي بدرت من رجال الأمن على المواطنين المسالمين. وطلب من المشاركين الذين افترشوا الأرض مقابل نادي الجهراء الانصراف بهدوء لتفويت الفرصة على المندسين الذين ربما كانوا يريدون تحويل التحرك السلمي إلى شيء آخر، مع وعد باللقاء يوم الاثنين المقبل في ديوانية النائب فيصل الصانع في منطقة كيفان.

يوسف المشاري ينتصر لوطنه

لا يستطيع أحد من الذين حضروا أحداث الجهراء أن ينكر الدور الذي لعبه الأسير الشهيد العميد يوسف ثنيان المشاري في تخفيف حدة التوتر بين المواطنين ورجال الأمن في تلك الليلة، فتعرض في ذلك للوم من القيادة العليا في وزارة الداخلية، فهو من قرر إعطاء رئيس مجلس الأمة أحمد السعدون الفرصةَ للتحدث من خلال مكبر الصوت الخاص بدورية الشرطة لتهدئة الجمهور ودعوته إلى الانصراف.

المشاري، الذي كان رئيساً لنادي القادسية عام 1985، كان أحد قادة المقاومة الكويتية أثناء الاحتلال. فدخل البلاد بعد وقوع الغزو العراقي آتياً من فرنسا حيث كان يقضي إجازته الصيفية، وشكل قيادة لمقاومة الاحتلال إلى أن أسر مع مجموعة من رفاقه بمنطقة النزهة في أكتوبر 1990، بعد عشرة أشهر من أحداث الجهراء.

واليوم إذ نتذكر دور المشاري في تلك الأحداث، ودوره البطولي إبان الغزو، نتذكر ذلك الرجل المبتسم كما في الصورة أعلاه، التي التقطت أثناء تجمع الجهراء، فهو بينما كان يمارس دوره كرجل أمن، سعى جاهدا -خلافاً للاتجاه العام للسلطة- إلى التخفيف من احتقان الأجواء في ذلك اليوم، الذي نعلم أنه لولا يوسف المشاري لربما كانت نهايته مختلفة عما آلت إليه.

الرشيد: تحدثت مع رجال الأمن فضربوني من الخلف

بعد أربعة أيام من اصطدام السلطات الأمنية مع المواطنين في ديوانية الاثنين الخامسة عند النائب أحمد نصار الشريعان في الجهراء، روى النائب السابق محمد الرشيد قصة الاعتداء عليه (وهو في السبعين من عمره آنذاك) لرواد ديوانيته، وقد صُوِّرت الرواية التي ننقلها بتصرف:

وصلنا ديوانية الشريعان وإذا بالقوات الخاصة موجودة هناك، فطلب منا أحد الضباط الانتظار على الرصيف، وأثناء انتظارنا صلينا جماعة في الساحة، وبعد انتهائنا من الصلاة رأينا أفراد القوات قد لبسوا الخوذ على رؤوسهم، فتوجهت إلى أحدهم وقلت له إن الضابط طلب منا الانتظار واعتقدنا أنه سيسمح لنا بالمرور، وأثناء حديثي فاجأتني ضربة هراوة أصابتني من الخلف، فالتفت فوراً فتلقيت ضربة أخرى على كتفي، ثم انقض أفراد القوات الخاصة على الناس وحصل اشتباك بينهم.

وبعد أن هدأت الأوضاع نصبت القوات سياجاً حديدياً حول المكان، فأتى العميد يوسف المشاري، وهو أحد قادة الأمن، وجزاه الله خيراً، وأمر بانصراف القوات، وطلب من رئيس المجلس أحمد السعدون تهدئة الجمهور، وأعطاه مكبر الصوت الخاص بدورية الشرطة لإيصال صوته عالياً، وبدأ الناس ينصرفون.

ثم قلت للعميد المشاري: أسلوب الشريعان سليم في التعامل مع الحدث، إذ توجه مسبقاً إلى المخفر طالباً منهم التوقيع على أمر رسمي بإغلاق ديوانيته من قبل وزارة الداخلية، لكنهم رفضوا، وذلك يعني أن الديوانية لم يصدر ما يغلقها رسمياً، لذلك فإن ما جاءنا من القوات هو بمنزلة غدر.

بعدئذ قررت أن أثبت حالة الاعتداء علي حتى أحفظ حقي تحسباً لأي إجراء قضائي يتعلق بالحادثة، فآثرت تخطي المخفر والتوجه مباشرة إلى النيابة العامة، إذ كنت متيقناً أنني إنْ ذهبت إلى المخفر فسيماطل في القضية. فأحالتني النيابة العامة إلى الطب الشرعي، وتم إجراء أشعة وكتابة تقرير طبي لإثبات الإصابات.

ضرب على الرأس... ونزف... واعتقال

من ضمن المواطنين الذين اعتدت عليهم القوات الخاصة في الديوانية الخامسة عند النائب أحمد الشريعان في الجهراء، النائب السابق محمد الرشيد، وكان حينئذ في السبعين من عمره، ونائب مدير جامعة الكويت السابق د. أحمد بشارة، ورباح الرباح وعبدالمحسن الكليب وناصر الغانم ووائل العمر وجمال النيباري وعبدالهادي العجمي ومحمد القديري، ولربما كان هناك غيرهم، ولكن هذه هي الأسماء التي وُثِّقت على الأقل. وقد وصف النائب أحمد باقر في إحدى الديوانيات الإصابات التي تعرض لها المواطن رباح الرباح، إذ ضرب بشدة على رأسه ووجهه، وكان فمه ينزف دما ويده مجروحة، وعولج في المستشفى، ثم اقتيد إلى المخفر، وأمضى الليلة هناك بجراحه إلى اليوم التالي، عندئذ توجه نواب منهم مبارك الدويلة وعباس مناور وأخرجوه.

من أشعار ديوانيات الاثنين

هموم الوطن

الكل لاجل الوطن يجري نهر ... دمه

والحر لو يركبه ضيم سفح ... دمه

يحيا شباب الوطن جهراوي في ... دمه

كيف يا صحيح البدن ترضى لأهلك ... ربو

احنا أهل والأهل هم عيب يتحا ... ربو

كلما خطف محملك اشراعنا سا ... ربو

للموج لو يعترض يركس ويرم ... دمه

«غير معروف»

(يتبع)

شاهد ملفات فيديو توثيق حلقات ديوانيات الاثنين على يوتيوب

مجلس الوزراء يصدر قراراً قبل تجمع الجهراء بأيام يمنع فيه الدعوات العامة إلى مناقشة مواضيع محددة

القوات الخاصة اتخذت من مدرسة أم ورقة الابتدائية مقراً لآلياتها وانتشرت بين المنازل تعينها في ذلك الشرطة والحرس الوطني

ضرب وصراخ وقنابل صوتية فرقت المتجمهرين وعادوا إلى التجمع مرة أخرى في دوار نادي الجهراء

أحمد السعدون دان تصرفات السلطة عبر ميكروفون دورية الشرطة وطلب من المشاركين الانصراف بهدوء
back to top