تأملات في البناء الصراعي اللبناني
يؤثر لبنان، البلد الفريد والصغير الحجم في سياسة الشرق الأوسط كما لا يفعل غيره، وإن شئت الدقة فالأحداث السياسية في لبنان هي الانعكاس الأدق للسياسة الإقليمية والترمومتر الذي لا يخيب في قياس حرارة التيارات والأحزاب السياسية اللبنانية المتحالفة مع دول الإقليم. جغرافية لبنان صارمة وطبيعته ساحرة، في حين يتكون سكانه من طوائف تبدو في أحيان كثيرة متناحرة. وهذه الطوائف اللبنانية بالتحديد هي السبب الأساس في تشظي السياسة اللبنانية فيما بين أحزاب هي واجهة سياسية لطوائف، تتصارع على خلفيات ارتباطها الإقليمي. ويبلغ رأس المال السياسي الدائر في لبنان أضعاف الدخل المتولد عن الناتج الوطني الإجمالي، وتؤدي هذه النتيجة إلى جعل لبنان بوتقة لصراعات الآخرين على أرضه عن طريق صراعات طوائفه فيما بينها.ارتبط الموارنة في لبنان عند استقلاله عام 1943 وما قبل ذلك بفرنسا، باعتبارها أماً حنوناً تحدب على لبنان وموارنته الأقرب إلى الثقافة الفرنسية. أما السنّة فارتبطوا تاريخياً بسورية وكانوا ممثلين منذ تأسيس الوطن اللبناني للعروبة في لبنان، فهم الذين شكلوا الخزان البشري لحركة القوميين العرب وللتيار السياسي الذي مثله الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. ومع ازدياد الحضور الفلسطيني في لبنان طوال عقد السبعينيات كان السنّة هم الرديف الأول للثورة الفلسطينية، أي باختصار الطائفة المتحالفة مع العروبة والثورة في المنطقة العربية. أما الطائفة الثالثة الكبيرة في لبنان وهي الشيعة، على العكس من الموارنة والسنّة، فمازالت تعيش وهج تحالفها مع الخارج ولم تتخطّ ارتباطها مع إيران بشكل أو بآخر. ومع قيادة إيران لمشروع «الممانعة» في المنطقة يكتسب الشيعة في لبنان دوراً مركزياً، خصوصاً في ظل مواجهتهم ومقارعتهم للمشروع الصهيوني في المنطقة. استُدرج أخيراً «حزب الله» اللبناني بقيادة السيد حسن نصر الله إلى استعمال سلاحه في الداخل اللبناني لأول مرة منذ تحرير جنوب لبنان عام 2000، ومنذ الانتصار في حرب عام 2006. ولئن انتمى «حزب الله» إلى الطائفة الشيعية الكريمة، إلا أن رمزية مقاومته للكيان الصهيوني ودأبه على صوغ تحالفات عابرة للطوائف في لبنان جعل الحزب يحظى بدعم وتأييد من أتباع الطوائف اللبنانية الأخرى، وهو ما أدخل السيد حسن نصر الله من أوسع بوابات المحبة عند جماهير العرب. حتى قبل أسبوع من كتابة هذه السطور كان الانقسام السياسي في لبنان يدور بين فريق 8 آذار الذي يمثله «حزب الله»، و«حركة أمل»، ورموز وطنية لبنانية سنية مثل الرئيس عمر كرامي في طرابلس والوزير عبد الرحيم مراد في بيروت والنائب أسامة سعد في صيدا مع رموز درزية، وكلهم متحالفون مع التيار الوطني الحر الذي يقوده الجنرال ميشيل عون وإقليمياً مع سورية وإيران. يمثل فريق 14 آذار تيار المستقبل الذي يمثل الشطر الأكبر من الطائفة السنية والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، ورموز وتيارات مارونية مثل «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع و«حزب الكتائب» بزعامة أمين الجميل. ويتحالف هذا الفريق إقليمياً مع السعودية ومصر ومحور الاعتدال العربي ودولياً مع الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. وبسبب هذه الشبكة الواسعة من التحالفات المتوزعة على دول المنطقة وخارجها، يبدو الصدام السياسي بين الطرفين مبرمجاً ولا فكاك منه. ولكن قرارات مجلس الوزراء اللبناني الأخيرة والخاصة بإقالة رئيس جهاز أمن المطار وشبكة اتصالات «حزب الله» أدخلت لبنان إلى مرحلة جديدة في تاريخه، إذ أفلح تحريض السيد وليد جنبلاط للحكومة في جر «حزب الله» إلى معركة حسم بالسلاح في بيروت أولاً وطرابلس ثانياً وجبل لبنان ثالثاً. ونزعت هذه الأحداث القدسية عن سلاح المقاومة الذي استعمل في الداخل، فكسب «حزب الله» وميليشيا أمل مواجهة غير متكافئة في شوارع بيروت، ولكنهم خسروا الكثير من التقدير الذي حظوا به داخل لبنان وخارجه. اللافت في المرحلة الجديدة التي دخلها لبنان أن الصراع وإن دار بين فريقين، كما كان دائماً، إلا أن الخصمين الأساسيين في هذا الصراع صارا السنّة والشيعة وليس كما كانت الحال بين المسلمين والمسيحيين في الحرب الأهلية التي استمرت من 1975 حتى بداية التسعينيات. دشن المد الناصري في المنطقة عصر الرئيس فؤاد شهاب 1958 الذي مثل نقطة التوازن في لبنان بين الأطراف المتصارعة وقتذاك في المنطقة، في حين عبر الرئيس سليمان فرنجية عن عمق التواصل والتأثير السوري غير المباشر في الشأن اللبناني. وبالمثل فقد كان الرئيس إلياس سركيس رئيس الجمهورية اللبنانية المتأثرة بوجود منظمة التحرير الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، مثلما كان الرئيس أمين الجميل رئيساً لجمهورية لبنان المنهار بفعل الاحتلال الإسرائيلي وتناحر الطوائف. ومنذ فراغ موقع رئاسة الجمهورية أواخر العام الماضي بعد خروج الرئيس إميل لحود من قصر بعبدا، اشتعلت المواجهة بين الطرفين، إذ إن موقع رئاسة الجمهورية مثله مثل لبنان نفسه يعكس التوازنات الإقليمية والدولية. لم ينتصر أحد في المواجهات الأخيرة، ولم تنتصر طائفة على أخرى في لبنان المحكوم بالتوافق بين الطوائف، بل ربما خسر سلاح المقاومة بعضاً من هيبته. فالأحداث الجارية في لبنان لن تنتهي على الأغلب مثلما بدأت، بل ستُدخِل لبنان والمنطقة معه في مرحلة جديدة، فلننتظر لنرى. * كاتب وباحث مصري