المجلات الثقافيّة وقصيدة النثر... نقاش أم جعجعة بلا طحن؟
دار أخيراً في الوسط الشعري نقاش في اتجاهين، جاء الأول بعد صدور كتاب «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء» للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، والثاني بعد ندوة «المجلات الشعرية:انحسار أم تراجع؟» التي عُقدت في دمشق وشارك فيها عدد من الكتاب والشعراء.
بين الندوة عن المجلات الثقافية وكتاب حجازي، قرأنا مقالات كثيرة وردوداً وتعليقات من الشعراء والكتاب. وهي تستدعي طرح أسئلة كثيرة حول مجلة «شعر» اللبنانية. هل ثمة كاتب مستقل يؤرخ لمجلة «شعر»؟ وهل تابع أنصارها المجلات الأخرى أم أن ذاكرتهم انتقائية؟ وهل باتت هذه المجلة «العقدة الثقافية» التي تحاك حولها الحكايات والخرافات؟ الأمر الملتبس في المجلة أن كل شاعر شارك في تأسيسها يدّعي أنه صاحب أبرز دور في تكوينها وترويجها! من يقرأ بعض حوارات أدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط ويوسف الخال يستنبط ما نقوله.من جهة أخرى، لماذا هذا الضجيج كله حول قصيدة النثر ووضعها في خانة «القضية»، هل تستحق هذه الجعحعة والكتابة في وقت بات الشعر في مكان آخر، وأصبحت الثقافة والأجناس الأدبية في عالم مختلف؟ هل يعيش أحمد عبد المعطي حجازي «مأزق الشعر» وهو الذي لا نذكر من شعره إلا كتابه «مدينة بلا قلب»؟! يكتب حجازي عن مأزق الثقافة والمثقفين ويضع قصيدة النثر في الواجهة، كأن الانحدار في الثقافة مصدره هذه القصيدة. لنقل إن الإيجابي في كتاب حجازي تحرّكه مياه الشعر الآسنة، لكن هذا الجدال العقيم لا ينتج شعراً، فالشعر لا يأتي من الجدل بل من الإلهام والموهبة، والقضية ليست قصيدة نثر أو قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية، ثمة العشرات من ناظمي الشعر العمودي لا يستحقون القراءة والأمر نفسه ينطبق على قصيدة النثر وغيرها من الأجناس الأدبية. يسمي حجازي قصيدة النثر بـ{القصيدة الخرساء» وهو يهينها بهذه الصفة، من دون أن يدرك أن ثمة قصائد تُقرأ بصمت وأخرى تُقرأ على المنبر... ثمة قصائد صوتية وسمعية وأخرى ذهنية، وهذا الواقع لا ينفي طبعاً الكوارث في الإنتاج الشعري النثري والتفعيلي والعمودي والزجلي والإلكتروني، إذ ثمة مئات الشعراء الذين ينتجون قصائد تستحق القراءة، والأرجح أن الرواية على طريق الشعر في انحدار.النقاش الحاصل حول «قصيدة النثر» ومجلة «شعر» مشهد بائس يتكرر من حين الى آخر في وسط ثقافي كالح، من يقترب من النفير الثقافي يعرف مكنون هذا النقاش. فقد كتب أحد الشعراء مقالاً في هجاء مجلة «الآداب» لمجرد الثأر لمجلة «شعر»، وانتقد شاعر آخر كتاباً عن قصيدة النثر لأنه لم يؤسطر أنسي الحاج على النحو اللازم، في ذلك شيء من «الكهنوت الثقافي» السائد. ويبكي شعراء جدد كثيرون لأن أحد شعراء النثر لم يكتب عنهم. تبدو فداحة الكتابة المزاجية واضحة في المنابر الثقافية، والشاعر أحمد حجازي لا يختلف عن هؤلاء الذي نلمح إليهم، فهو كما خصومه، ومن المدرسة نفسها، ويمشي على طريقهم، فعندما بدأ الكتابة كان عبّاس محمود العقّاد، ألمع الأسماء في الخمسينات، مقرّر لجنة الشعر. آنذاك، رفضَ العقاد سفر حجازي وصلاح عبد الصبور للمشاركة في أحد مؤتمرات الشعر في دمشق «لأنّ ما يكتبانه ليس سوى عبث نثري، والشعر لا يصبح شعراً إلا بـ{القافية». حينها، كتب حجازي قصيدةً شهيرةً في هجاء العقاد بعنوان «من أي بحر». واليوم يجلس حجازي نفسه في مقعد العقاد. وإذا به يفعل أسوأ مما فعله الشاعر الكلاسيكي. إذ بدأ يستبعد شعراء النثر من المؤتمرات التي يشرف عليها، وها هو يخوض الآن حرباً ضدّهم في كتابه الجديد «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء».محمد الماغوطلا ينتهي الحديث عن كواليس بعض أهل الشعر، فهم الأكثر ثرثرة والأقل شعراً، يقفون في المرآة ويظنون أن العالم كله ينظر إليهم، أو يكتبون الطلاسم ويظنون نفسهم «أنبياء»، على طريقة المتنبي، وعرافين وكلامهم نبوءة العصور الجديدة، كل واحد يظن نفسه رامبو زمانه أو بودلير بلاده، أو «يتقمص» دور الحلاج وهو في بلاط الملك! نقول هذا الكلام لأنه جوهر النقاش الحاصل حول قصيدة النثر ومجلة «شعر»، في هذا السياق يذكر الناقد صبحي حديدي فكرة لافتة قالها الشاعر السوري محمد الماغوط، تقول إن إعادة تدوين ذاكرة مجلة «شعر» لا تكتمل إلا باستذكار علاقة الماغوط بها، فقد وصف الأخير في مقال نشرته صحيفة «الأنوار» اللبنانية، جماعة «شعر» بأنهم «ضحلو الموهبة، غير قادرين على دخول المعركة من باب الشعر الأصيل المنزّه، فراحوا يحاولون فتح أنفاق عدة تحت الأرض لطم التاريخ العربي بأسره، ليخوضوا المعركة خارج ميداننا ضدّ وهم كبير يسمّونه بكلّ رعونة «الجمهور الأمّي» والغوغاء. والدليل على ذلك أنّ حكمهم النهائي على نجاح القصيدة هو أن يرفضها الجمهور، أن يسخر منها ويشمئز. وهناك وقائع عدة عن هذه الظاهرة وقفت عليها شخصياً عندما كنت عضواً عاملاً ومخدوعاً بينهم طوال ثلاث سنوات ونيف».وأضاف الماغوط تلك الجملة القاتلة: «قلْ لأحدهم ثلاث مرّات: المتنبي، يسقط مغشياً عليه. بينما قلْ له على مسافة كيلومتر: جاك بريفير، فينتصب، أو يقفز أمتاراً عدة عن الأرض كأنه شرب حليب السباع. لماذا؟ الجواب بسيط: لأنّ هذا غربي، وذاك عربي!». شهادة الماغوط تبرهن أن ملف المجلة لا يزال مفتوحاً، والغريب أن كتابات كثيرة عنها تصب في خانة «تقديسها» وأسطرتها، فيما هي في شكل من الأشكال كانت مجلة عادية، من يؤسطرها يضعها في خانة «الفرنجي برنجي»، ما يؤكد وجود مشكلة في التأريخ للأدب اللبناني وللثقافة اللبنانية، إذ ثمة مجلات عربية كثيرة، أكثر حضوراً من «شعر» لا ينتبه إليها أحد راهناً، مثلاً مجلة «المكشوف» لفؤاد حبيش التي صدرت في ثلاثينات القرن الماضي لها حضورها البارز، لكنها تحتاج من يؤسطرها، ومن يراجع مجلة «الآداب» في مرحلتها الأولى يجدها أكثر رصانة وثقافة من «شعر» التي اعتمدت «نجومية» الشعراء لا المضمون الثقافي، والتي ينحاز إليها كثيرون لمجرد أنها مجلة «شعر» حتى إن لم يقرأوا عدداً منها.أخيراً، لا بد من القول إن صفة شاعر في الوسط الثقافي تشبه صفة «الحاج» لدى بعض الطوائف المسلمة، إذ يقولون لكل شخص حاج من دون إدراك إن هذه التسمية لها شروطها.