دور آخر للرواية


نشر في 17-05-2009
آخر تحديث 17-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان في اميركا اللاتينية قادت الرواية تيار المقاومة والاحتجاج والتصدي للقمع والطغيان والدكتاتورية على مدى أكثر من نصف قرن. ونجحت إلى حد كبير في تحقيق المعادلة الصعبة وإنجاز دورها بالإضافة إلى الامتاع الفني.

للدكتاتور حضوره البارز في أدب اميركا اللاتينية خصوصاً الرواية، فلمعظم كُتاب القارة الكبار أعمال روائية شهيرة رسمت ملامح الدكتاتور ونظامه وفضحتهما، ورفعت من ثم راية الاحتجاج والدعوة إلى مقاومته وإطاحته منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

وبسبب كثرة الروايات التي اتخذت من الدكتاتور محوراً لها وانشغلت بفضح فساده وطغيانه، تشكَّل تيار الاحتجاج وتعاظم. وأُجبر معظم الروائيين على الفرار من بلادهم إلى أميركا وفرنسا لكي يواصلوا في المنافي رفع راية الاحتجاج والمقاومة. وقد بدأ هذا التيار برواية «السيد الرئيس» للكاتب الغواتيمالي ميجل انخل أستورياس التي نُشرت عام 1946 في المكسيك ثم صدرت بعد ذلك روايات عديدة لكتاب من شتى أنحاء القارة من أهمهم كارلوس فولتيس- رينيه فابيلا- أليخو كاربنتير- روا باسطورس- ماركيز- ماريو بارجاس يوسا وغيرهم.

ومن الطريف أن الروائي المكسيكي كارلوس فونتيس فكر قبل نصف قرن في كتابة عمل جماعي يُطلق عليه «أبناء الأوطان» يكتب فيه كل روائي فصلاً عن دكتاتور بلده!

وفي كتابه «في الواقعية السحرية» الصادر عام 2008 عن هيئة الكتاب المصرية اهتم الناقد والمترجم د. حامد أبو أحمد بروايات الاحتجاج التي انشغلت برسم ملامح الدكتاتور وبتحليل واقع بلدان أميركا اللاتينية التي تتداخل فيه الأزمنة والواقعي والخيالي عندما يقول: «أميركا اللاتينية قارة تعاني من تداخل العصور فكل شيء يحدث في وقت واحد: القِدم والحداثة... فالقرى في هذه القارة مازالت تعيش فترة تشبه العصر الإقطاعي في الوقت الذي تشهد فيه المدن أو بعض المناطق ثورة صناعية متقدمة، وهذا الواقع يظل ناقصاً بدون شخصية الدكتاتور الموجود في كل مكان».

إنها حداثة التخلف والتناقض المنتشرة في معظم الدول الفقيرة والنامية التي تستعير من العالم المتقدم بعض مظاهر الحداثة وتتشبث في الوقت نفسه بكل ركائز الجمود والتخلف ومنها الدكتاتورية التي يتحدث عنها ميجل استورياس قائلاً: «الديكتاتورية لا تختلف في شيء عن السم الصادر عن عنكبوت هائل وفي روايتي السيد الرئيس يلاحظ القارئ كيف يعمل الدكتاتور على إفساد الجميع وشراء كل الذمم وترويع الناس وتحويلهم من أشخاص إلى كائنات ميكانيكية، وإلى متعصبين وانتهازيين قساة»!

وبينما اتكأ معظم الكُتاب على الواقع لرسم ملامح الدكتاتور، أبحر جارثيا ماركيز وخلط الواقع بالخرافة والسحر ليجسد في روايته «خريف البطريرك» دكتاتوراً أُمياً له من العمر 182 سنة، وقد ظل فترة طويلة في السلطة لدرجة أنه لا يتذكر متى وصل إليها، ولأنه يرتاب في الجميع يراقب بنفسه يومياً عملية حلب الأبقار ويعيش بمفرده في قصر هائل مصدراً أوامر عجيبة، ومستمتعاً بنفاق المتملقين الذين ينادون به قائداً أعلى للزلازل الأرضية وللكسوف والسنوات الكبيسة!

يقول ماركيز في أميركا اللاتينية كل شيء ممكن وكل شيء واقعي مبرراً هذا الإبحار، ويتحدث في مقال نشره عام 1979 عن بعض الأفعال الشاذة والغرائبية لبعض الدكتاتوريين منهم الدكتور دوفالييه في هاييتي الذي قام بحملة للقضاء على الكلاب السوداء في البلاد لأن أحد أعدائه عرف كيف يتخلص من طبيعته البشرية ويتحول إلى كلب أسود... وأنطونيو لوبيث في كولومبيا الذي قام بدفن ساقه في جنازة مهيبة... وأناستاسيو سوموزا في نيكاراغوا الذي كان يحتفظ في قصره بحديقة حيوانات بها صنفان من الأقفاص؛ أحدهما يحبس فيه الحيوانات المتوحشة، والآخر يحبس فيه أعداءه السياسيين. وتبقى رواية «خريف البطريرك» التي صدرت عام 1975 وترجمها محمد علي اليوسفي وصدرت في بيروت، في تقديري، واحدة من أجمل روايات ماركيز.

في أميركا اللاتينية قادت الرواية تيار المقاومة والاحتجاج والتصدي للقمع والطغيان والدكتاتورية على مدى أكثر من نصف قرن. ونجحت إلى حد كبير في تحقيق المعادلة الصعبة وإنجاز دورها بالإضافة إلى الامتاع الفني، الأمر الذي يدفعنا إلى تأمل واقعنا الأدبي وشحوب دور الرواية في بلادنا واعتياد القراء والمثقفين على مطالبة الشعر وحده رغم خصوصيته وضيق دائرة قرائه بالتصدي للطغيان ومقاومة القبح والتردي.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top