يا مألوظ !

نشر في 07-01-2009
آخر تحديث 07-01-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي لم يتجرأ أحد من قبل على مصر، مثلما تجرأ حسن نصرالله في تدخله المباشر في شؤون مصر. رغم هذا، إلا أنني لم أقرأ أو أسمع ردا واحدا صريحا في مصر على ما قاله الرجل، لم يطالب أحد بإغلاق مكاتب حسن نصرالله ومكاتب قناته التلفزيونية «المنار» في القاهرة. بلا شك، حسن نصر الله له معجبون أبرياء في مصر بدافع الحب والتوق إلى رومانسية زعيم عربي له كاريزما جمال عبد الناصر، كذلك لنصر الله معجبون في مصر غير أبرياء... معجبون بفلوس، أي يقبضون ثمن، هذا الإعجاب. ومع ذلك، لم يستطع محبو نصر الله أن يعارضوا النغمة المصرية الوطنية التي استفزتهم وأن يعلنوا تأييدهم لما قاله صراحة، كما لم يقم الوطنيون الكارهون لتدخل رجل مهما بلغت زعامته- فهو في النهاية ليس مصريا- بإدانة واضحة وصريحة لهذا التدخل غير اللائق. ولم تجرؤ الحكومة ذاتها على قفل مكاتب نصرالله في القاهرة وترحيل مراسلي «المنار» أو حتى إلغاء تصاريح عملهم في مصر، كل الكلام جاء خجولا ومواربا.

في مصر، ولأننا «كاشفين بعض» أو نفهم حالنا بالفطرة، اخترعنا كلمة دقيقة للتعبيرعن هذه المواربة، وهي كلمة «مألوظ» كوصف دقيق لشخص يكيِّف نفسه حسب الموقف ودائما يلعب «في الكسبانه». في الصعيد نقول عنه «مظفلط»، أي لا تستطيع أن تمسك به.

وفي مصر هذه الأيام، وبحثا عن بطولات وهمية في الفضائيات والصحف، كلام كثير «مألوظ» وناس كتير «مألوظة». شخصية «المألوظ» لا تظهر في المجتمعات الحرة، فهي تحتاج إلى مجتمعات تعاني إلى درجة كبيرة الضغط السياسي والاجتماعي يتحول فيها الصراع من مقاومة عدو جاثم على الصدور جميعا، إلى اتهامات متبادلة يمارسها المضطهدون (الواقع عليهم الاضطهاد) ضد بعضهم بعضا، لذا أصبحت مصر لا إسرائيل هي التي يشار إليها بأصابع الاتهام حول المأساة الإنسانية الفظيعة التي تعيشها مدينة غزة هذه الأيام.

حسن نصرالله، بالتأكيد، لم يطلب من المصريين أن يتظاهروا، إلا حينما قيل له من قبل «موظفيه» في القاهرة أن العقول قد تجهّزت، وحان قطافها، وهيت لك... لذا كان الرجل واثقا من نفسه ومن الاستجابة لدعوته لدى قطاعات كبرى في الشارع المصري، لدرجة أنه صدق أن الجيش المصري ذاته يمكن أن يستجيب إلى ندائه. الإعلام المصري عبأ الشارع منذ أعوام، وجيّش الجماهير لمصلحة نصرالله وإيران، فكُتّاب الحرس الثوري موجودون اليوم في كل صحيفة في مصر، وهناك صحف ممولة بالكامل من الحرس الثوري، وبعض رؤساء تحرير صحف الحرس الثوري يسافرون على أهم طائرة للحكومة، إذن «إحنا بندافع عن مين ضد مين؟» بعض رؤساء الصحف القومية ممن مجَّدوا نصرالله في السابق يطالبون اليوم الشعب بأن يستنكر على نصرالله ما قاله في حق مصر. «هو إيه الحكاية»؟

عندما كتبت مقالا عن «اللوبي الإيراني» مرة، وأكدت عليه بمقال آخر هو «اللوبي الإيراني مرة أخرى»، قامت الدنيا ولم تقعد. والآن اكتشفوا أن إيران «مش برا»، وأن «إيران اللي جوه أكبر من إيران اللي بره»، وأن هناك شبكة كاملة من خلاياها في القاهرة يمولها المال «الطاهر» القادم من طهران، شاليهات، وعزب، وعذاب، وعيون ما تنام، على رأي شادية.

يا «مألوظ إنتَّ»، كيف تطالب الجماهير بأن تدين نداء نصرالله اليوم بينما كانت تسَّبح بحمده بالأمس ومازالت مذيعتك في تلفزيون الحكومة في لقائها مع وزير خارجيتنا، تشير إليه بـ«سماحة السيد»، كيف نطالب الناس أن تهتف للشيء ونقيضه في الوقت ذاته؟ كيف تتمتع مكاتب قناة «المنار» والجريدة التي تقبض من مكاتب «المنار» في القاهرة وتحظى وصاحبها بحماية مجلسي الشورى وحصانة مجلس الشعب، وتطالبون الغلابة أن يتظاهروا ضد نصرالله. لو كنتم رجالا بحق «مش مجموعة مألوظين» لكنتم اتخذتم قرارا صريحا لامواربة فيه بإغلاق مكاتب نصرالله في القاهرة وطرد مراسليه. «مش» كل شيء يمكن «يتألوظ»، هناك أشياء لا «تتألوظ»، على رأي أبو تريكة لا أمل دنقل.

واحدة من مآسي المهزومين المعروفة في كل نظريات السياسة، أنهم وبدلا من التوجه بالمقاومة الرأسية تجاه من يذيقهم سوء العذاب يتجهون إلى المقاومة الأفقية وتمزيق بعضهم بعضا، في حالة من الردح كما يحدث في الحواري، هذا ما سماه البعض ممن لم يدركوا ظاهرة القوة ونتائج ضغط القهر على المقهور، بنظرية «فَرِّق تَسُدْ»، لم يكن الاستعمار أيامها يقوم بعملية «فَرِّق تَسُدْ»، التفرقة كانت تأتي نتيجة لتحول المقاومة من الحالة الرأسية (أي مقاومة المحتل) إلى الحالة الأفقية التي يعاير فيها المظلومون بعضهم بعضا، يتهمون بعضهم بعضا بالعمالة والخيانة، ويمزقون بعضهم إربا، إما بالفعل وإما بالكلام الجارح.

كلام حسن نصرالله يصب في خانة سلوك المهزومين، أنصاره ممن يتبنون هذه النغمة في الداخل والخارج مهزومون أيضا. إنها روح الهزيمة الناتجة عن حالة الإحساس الكامل بالعجز التي تؤدي إلى تبادل الاتهامات التي نراها في العالم العربي اليوم. وحالة العجز مع الرغبة الجامحة في رسم بطولات زائفة هي التي تؤدي إلى الحديث الموارب، وهي المسؤولة أولا وأخيرا عن ظهور شخصية «المألوظ».

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top