ازدواجية خطاب الإسلاميين وخطاب الغرب حولهم
على الرغم من أن الحوار بين ممثلي التيارات الإسلامية على اختلافها وباحثي المؤسسات الأكاديمية الغربية المهتمة بشؤون السياسة في العالم العربي لم يعد بالأمر الجديد أو النادر الحدوث، فإنه ما لبث يتسم بالعمومية الشديدة وبمراوحة الخطاب لدى الطرفين بين أضلاع ثلاثية النقد والشك والاتهام.الإسلاميون، من جهة، يوظفون حوارهم مع المؤسسات الغربية لإيصال مضامين أربع رئيسية: 1- أن تياراتهم تؤمن بالفكرة الديمقراطية وتلتزم ممارستها ولا تخشى التعددية أو المنافسة ومن ثم ترغب في دفع الإصلاح الدستوري والسياسي في المجتمعات العربية إلى أفاق بعيدة. 2- أن النخب السلطوية الحاكمة هي المسؤولة بمفردها عن تعثر الإصلاح واستمرارية غياب الديمقراطية عربياً. 3- أن الغرب بدعمه للنخب الحاكمة يتحمل مسؤولية بقاء احتكارها للسلطة وتهميش التيارات الديمقراطية وفي مقدمها الإسلاميين. 4- أن الخطاب الغربي حول أهمية الإصلاح في العالم العربي هو حديث فارغ المحتوى ولا يستقيم مع ممارسات الحكومات الغربية المتحالفة مع حكام عرب يزوّرون الانتخابات بانتظام في حين تعادي حكومة حركة «حماس» المفوضة شعبياً بالحكم في انتخابات اعترفوا هم لها بالنزاهة التامة.أما الباحثون الغربيون فدوماً ما يركزون في حواراتهم مع الإسلاميين على التساؤلات التالية: 1- كيف للغرب أن يثق في التزام التيارات الإسلامية بالديمقراطية، وثمة العديد من الممارسات الشمولية والقمعية التي تورطت بها حكومات يديرها الإسلاميون سواء في إيران أو السودان أو في غزة حماس. 2- كيف للحكومات الغربية أن تتخلى عن تحالفها مع النخب السلطوية الحاكمة وهو ضمانة رئيسة لمصالحها الحيوية بالعالم العربي وفي لحظة مجتمعية لا معارضات فعالة بها سوى التيارات الإسلامية وتلك تعهدت مراراً بمحاربة مصالح الغرب. 3- هل من الواقعية تصور انفتاح الغرب الملتزم بأمن إسرائيل استراتيجياً على تيارات إسلامية ما لبث العدد الأكبر منها يرى في تدمير الدولة العبرية (أو دولة العصابات الصهيونية كما يسميها المرشد العام لجماعة الإخوان في مصر مهدي عاكف) هدفاً أساسياً أو يريد على الأقل في مصر والأردن إعادة النظر في معاهدات السلام التي تربط دولهم بتل أبيب. 4- كيف للحكومات الغربية أن تتعامل مع مواقف الإسلاميين المحافظة حول قضايا الحريات الدينية ووضعية الأقليات غير المسلمة في المجتمعات العربية ذات الأغلبيات المسلمة ومسألة حرية المرأة والمساواة بينها وبين الرجل.وواقع الأمر أن القناعات الفكرية والسياسية الكامنة وراء مضامين الإسلاميين وتساؤلات الباحثين الغربيين هذه لا تملك حال استمرارها القدرة على دفع الحوار بين الطرفين نحو وجهة أعمق وأكثر تحديداً. يدرك ممثلو التيارات الإسلامية أن رغبتهم في الإصلاح الدستوري والسياسي لا تخفي أن ثمة معضلات حقيقية تحول بين بعض تياراتهم والتزام الديمقراطية كفكرة وممارسة، ففي حين تعني الديمقراطية أن المرجعية النهائية للعملية السياسية هي الدستور والتشريعات الرسمية، يضع بعض الإسلاميين الشريعة أو بعبارة أدق فهمهم هم لمقاصد وأحكام الشريعة فوق الدستور والقانون.يرتب التزام الفكرة والممارسة الديمقراطية كذلك التسليم بمواطنة الحقوق المتساوية بين المسلمين وغير المسلمين من مواطني الدولة الواحدة والعمل على رفع معدلات المساواة دون قيود أو استثناءات بين المواطنين إناثاً وذكوراً، وهو هدف لم يقترب منه الإسلاميون سوى في حالات محدودة أبرزها ممارسةً تجربة العدالة والتنمية في المغرب، وفكراً حزب الوسط المصري (تحت التأسيس). ومع أن القول بأن النخب السلطوية الحاكمة تتحمل في المقام الأول مسؤولية غياب الديمقراطية عربياً له رجاحته، إلا أن الصائب أيضاً هو أن عدداً من التيارات الإسلامية عوّق برفضه الفعلي للانفتاح والتنسيق مع قوى المعارضة العلمانية من إمكانات توليد ضغط سياسي وشعبي حقيقي على النخب لإدخال إصلاحات ديمقراطية، بل رتّب في بعض المجتمعات تحالف العلمانيين مع النخب ضد الإسلاميين للحيلولة دون وصولهم إلى سدة الحكم. من جانبهم، يتعين على الباحثين الغربيين التمييز في سياق تساؤلهم حول مدى جدية التيارات الإسلامية بشأن الديمقراطية بين الحالات التي وصل بها الإسلاميون إلى الحكم دون الآلية الانتخابية، ودون خطاب ذي مفردات ديمقراطية واضحة، كما في إيران والسودان، وبين خطاب وممارسات الإسلاميين المنتخبين في البرلمانات العربية وجلها يدلل على التزام قواعد اللعبة التعددية والإجراءات الديمقراطية حال وجودها. نعم، ثمة شكوك مشروعة ترتبط بمواقف بعض الإسلاميين حول المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الدين والنوع، وكذلك اعترافهم بالدستور كمرجعية نهائية للعملية السياسية، وتلك لا ينبغي تهميشها، بيد أن الاستمرار في تجاهل انفتاح التيارات الإسلامية على ممارسات ديمقراطية كالانتخابات والعمل البرلماني خلال الأعوام الماضية، وقبولهم الفعلي بالتعددية في العديد من الحالات العربية يرتب نظرةً اختزاليةً بعيدة عن القراءة الواقعية. وفي حين يتسم النقد الغربي لمواقف الإسلاميين بشأن قضايا الحرية الدينية ووضعية الأقليات غير المسلمة والمرأة بالصدقية، يظل من الضروري إدراك التنوع في مواقف الإسلاميين من هذه القضايا، فالبون شاسع على سبيل المثال بين التقدمية النسبية للعدالة والتنمية المغربي، وبين محافظة الإخوان في مصر والأردن، وكذلك رصد مساحات التطور الفكري داخل التيارات الإسلامية حولها، خصوصاً في سياق مشاركتهم السياسية وتفاعلهم مع القوى المجتمعية الأخرى.أما المقولات الإسلامية حول ازدواجية معايير الغرب، وتعويل حكوماته على تحالفاتها مع النخب السلطوية لحماية مصالحها في العالم العربي، وما يقابلها من تشديد الأكاديميين الغربيين على الخوف من تداعيات تنامي دور الإسلاميين، وبكل تأكيد احتمالية وصولهم إلى الحكم على المصالح الغربية الحيوية، ومسألة أمن إسرائيل، فتعكس مجتمعة مخاوف حقيقيةً لدى الطرفين لا فكاك سريعاً منها. وإذا كان من العسير تناسي ازدواجية الغرب في إدارة ملفات الإصلاح والديمقراطية في عالمنا، بدءاً من الصمت على قمع الإسلاميين، ومروراً بغض النظر عن الممارسات غير الديمقراطية للنخب الصديقة، وانتهاءً بالانقلاب المنظم على تداعيات فوز «حماس» الانتخابي، يظل أيضاً تلويح الإسلاميين بالجهاد- على محدودية صدقيته الفعلية– لإبادة إسرائيل وخطاب العداء الإطلاقي المحتوى ضد الغرب ومصالحه مصدراً لشكوك ومخاوف الحكومات الغربية، ورفضها الانفتاح على الإسلاميين.لا بديل هنا في حال استمرار ازدواجية معايير الغرب والخطاب الإسلامي المعادي له، وكلاهما مرجح، سوى أن يعمل الطرفان على البحث عن مساحات جزئية للتلاقي وربما للتوافق بعيداً عن المشهد الإقليمي بتعقد صراعاته ومصالحه. وقناعتي أن مثل هذه المساحات حاضرة حين النظر إلى قضايا السياسة الداخلية وكيفية دفعها بمسار إصلاحي تدرجي يعمق المشاركة والحرية دون أن يرتب مباشرةً استبدال النخب الحاكمة بالإسلاميين، شريطة أن تكف التيارات الإسلامية عن النظر إلى ذواتها كخير خالص، وأن يدرك الأكاديميون الغربيون تنوع خبرات الإسلاميين ويكفوا عن رفع أصابع الاتهام نفسها في كل حوار، مرة تلو الأخرى.* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن