صمت الذئاب

نشر في 17-09-2008
آخر تحديث 17-09-2008 | 00:00
 بلال خبيز لا يصيح الديك في بلادنا إلا على جثث الصحافيين. الديك يتعرف الصباح من رائحة الدم المسفوك على الطرقات. في الموصل أو بغداد، أو في بيروت. الصحافيون الذين قيض لهم النجاة، حتى الآن، من الطلقات والعبوات الناسفة، يرسلون إلى المنفى. وحدهم المنفيون يستطيعون العيش في هذه البلاد. فالمنفيون ليسوا من يغادرون بلادهم فقط، بل أيضاً من لايزالون يتعلقون بقيم ومبادئ ويتبعون المنطق والحس السليمين في ما يخص قضايا بلادهم.

المطالبون بالديمقراطية منفيون. والمطالبون بالحريات وسيادة القانون منفيون. والمطالبون بتعديل السياسات الاقتصادية وحماية المواطنين من وحوش الغلاء منفيون. كل هؤلاء منفيون، لأن المنفى، تعريفاً، هو أن يكتب المرء ويتكلم لغة غير لغته، ويهتم بقضايا لا تثير من هم حوله. مَن من الصحافيين اليوم يستطيع أن يعد على أصابع يديه العشرة أسماء أشخاص معنويين يتصلون بالديمقراطية أو بحرية الرأي من أي باب؟ مَن من الصحافيين، غير المقتولين حتى الآن، يستطيع أن يعتمد على مَن يحميه إذا ما رأى رأياً مخالفاً لأصحاب السلطات، الغاشمة منها والغشيمة على حد سواء؟

في بلادنا تسفح دماء الصحافيين قبل صياح الديك وبعده. في بلادنا نتعرف على ضوء النهار بتعداد الجروح، واستشعار الكوارث. في بلادنا، ليس ثمة أسرار تهتك غير حيوات الصحافيين. وفي بلادنا، ينبغي علينا أن نعيش من دون حماية من أي نوع.

الصحافيون، بالخبز القليل الذي يتسنى لهم العودة به إلى بيوتهم، يبادلون دماءهم. الصحافيون، ثمة حسد مستشرٍ ينتشر أمامهم ووراءهم، فلا يمرون من دون إثارة زوابع من الدم.

الصحافيون، الذين يستهلكون عيونهم وقلوبهم لأجل أن تُنار العيون وتمتلئ القلوب، غالباً ما يكونون فريسة سهلة لمن يريد الاصطياد في المياه العكرة أو الصافية. وغالباً ما تتحول أجسادهم إلى صناديق بريد دامية.

ألم يعلق الكثيرون على مذبحة مراسلي قناة «الشرقية» في الموصل بالقول إن الرسالة وصلت؟ وحدها الرسائل الدامية ما يصل. ووحدنا بين شعوب الأرض كلها مازلنا نتخاطب بالدم ونتراشق بالنار. كما لو أننا شعوب بلا لغات. كما لو أن العقاب الوحيد الذي يمكن إنزاله بأي منا هو الموت. لا ظروف مخففة، ولا أحكام متنوعة. نقف على حد الموت، كما لو أننا نكفّر بدمنا عن ذنوب الأرض كلها.

الصحافيون موتى أو منفيون. هكذا يجدر بهذه البلاد أن تسمح لأجزائها بالتواصل. هكذا يفترض بنا أن نصدق أن القتل قد يكون عقوبة مناسبة لمن أخطأ. ذلك أننا لكثرة ما يستسهل بعضنا القتل ويحترفه، نجد أنفسنا مسوقين لتبرير موتنا الخاص. في هذه البلاد ثمة سبل كثيرة لتبرير القتل: القتل التباساً؟ لقد التبس الأمر على المقاتل في «حزب الله» فأطلق النار على الطوافة العسكرية ذات اللون الصحراوي، وقضى النقيب الطيار سامر حنا شهيداً. القتل تذكيراً: لقد انزعج القاتل من الدعوة اللبنانية إلى الحوار، فأراد تذكيرنا أنه مايزال طليق اليدين: قتل الشيخ صالح العريضي. القتل انتقاماً: فريق قناة «الشرقية» كان يصور برنامجاً عن شهر رمضان في الموصل. لم يكن يقترف جريمة التدخل في السياسة أصلاً. مع ذلك تم قتلهم جميعاً، لأن ثمة من تزعجهم برامج تلك القناة. والقتل وسيلة للمطالبة بالحقوق المهدورة: ما الذي كان يمنع أهل باب التبانة في طرابلس من عقد الصلح مع أهل جبل محسن قبل أسابيع؟

هل يكفي تعداد ضروب القتل وأنواعه التي شهدناها في الأسبوع الأخير لنعترف أننا لا نجيد سوى القتل. وأن كل ما يقال عدا ذلك لغو فارغ وكلام لا معنى له.

على هذا، وما دمنا نحترف القتل والتنكيل في ما بيننا، ونكاد لا نجيد غير لغة الرصاص والخناجر، لماذا نحمل على أعدائنا حين يعملون فينا تقتيلاً وتنكيلاً؟ أليس ثمة ضحايا سقطوا في أكثر من بلد عربي، بأيدٍ عربية يفوق أضعافاً مضاعفة أعداد الضحايا الذين قتلتهم إسرائيل أو شردتهم؟

هل نعد على الأصابع: الكويت، لبنان، سوريا، العراق، اليمن، الجزائر، فلسطين...

الصحافيون يكتبون، ويقرأون، ويناقشون. الصحافيون قوم عزل، وفي بلاد لا تعرف غير طعم الدم، تبدو هذه المهنة كما لو أنها مهنة الحملان. لكنهم يعرفون أن دماءهم ستقدم في الأضاحي، وما أكثرها في بلادنا. ومع ذلك ثمة من لايزال يريد أن يكون حملاً. لكن أكثر ما يقلق في هذه المجزرة المتنقلة هو بالتعريف: صمت الذئاب

* كاتب لبناني

back to top