في أربعين صالح بشير... المثقف المنفصل

نشر في 31-03-2009
آخر تحديث 31-03-2009 | 00:00
 ياسين الحاج صالح صالح يكتب ليعيش، وليس فقط بمعنى أنه يعيش من دخل تدرّه عليه الكتابة ولا يدره غيرها، إنما لأن إيقاع حياته وترتيبها مبنيان حول الكتابة. ليس الإيقاع الخارجي المتصل بتوزيع الوقت، بل إيقاع التفكير والتأمل الذي تسجله مقالاته، ولقد كان تأملا ضاربا على الدوام، وكانت نصوص صالح تجتذب القارئ وتأسر انتباهه، وتحترم عقله دوما.

لم ألتق بصالح بشير شخصيا، لكننا كنا على تواصل كثيف طوال نحو 30 شهرا قبل رحيله المفاجئ في 19/2/2009... الفضل لثورة الاتصالات في خلق أشكال جديدة من التعارف والصداقة بين أناس لم يسبق أن التقوا، وقد لا يلتقون أبدا. وإذا أمكن الكلام على صداقة افتراضية، صح القول إني وصالح كنا صديقين افتراضيين. ما أقوله عنه قد يختلف قليلا أو كثيرا عما قد يقوله صديق له «واقعي»، لكن لقول الصديق الافتراضي صدقيته الخاصة واستقلاله الذاتي، ولعل «الحقيقة» تتركب من القولين معا.

ويبدو أن التواصل بين شخصين دون سابق معرفة يسبغ على ما يتداولان حرية خاصة، كأنما يستفاد من الغفلية (وإن تكن غفلية نسبية، بالنظر إلى أننا نعرف بعضنا ككاتبين) لقول واستحضار أشياء قد لا يقولها المرء أو يستحضرها مع من سبق له أن عرفهم في الحياة الواقعية. كأنما المرء مستقل عن ماضيه، يستطيع بناء صورة لنفسه ولمحاوره أقل تقيدا بالماضي. صورة افتراضية، لكنها ليس أقل احتمالا من أي صورة أخرى، بهذا المعنى، يوسع العالم الافتراضي من حريتنا ويمنح حياتنا بعداً افتراضيا، أو أبعاداً افتراضية.

على نحو ما عرفته افتراضياً، صالح رجل خجول، متواضع حد التواري، لا يخاصم ما استطاع، فإن خاصم طوى الصفحة وأدار ظهره دون أن يلتفت وراءه... عملنا معا في موقع ثقافي «الأوان»، لأقل من عام. كنت «صندوق بريد» له (وكان صالح يحتج على وصفي لدوري بهذه العبارة) أما هو فقد استوطن الموقع أو أن الموقع استوطنه.

كان يحرر مواده ويتواصل مع الكتّاب، وبتهذيب جم دوما، أما أنا فكنت نجيّه الشخصي ومساعده في العمل طوال هذه الفترة، وكان «الأوان» يشبه صالح، ثقافة أفكار وكلمات عصية على التصنيف والاحتواء، والانطباع الذي أمكنني تكوينه عنه أن صالح مسكون بقلق جامح لا يطفئه غير عمل متواصل. العمل علاج لمن هو مثله، ولعله دفن ألمه على فقد ابنه الشاب في ربيع عام 2007 بالعمل اليومي الذي لا يتوقف.

صالح يكتب ليعيش، وليس فقط بمعنى أنه يعيش من دخل تدرّه عليه الكتابة ولا يدره غيرها، إنما لأن إيقاع حياته وترتيبها مبنيان حول الكتابة. ليس الإيقاع الخارجي المتصل بتوزيع الوقت، بل إيقاع التفكير والتأمل الذي تسجله مقالاته، ولقد كان تأملا ضاربا على الدوام، وكانت نصوص صالح تجتذب القارئ وتأسر انتباهه، وتحترم عقله دوما.

تفكيره أصيل ومبتكر إلى أقصى حد، لا يشبه أحدا غيره، ولعل هذا بعض السبب في غرابته وغربته. تفكيره ونتاجه لا ينضبطان في أي إطار معرفي معطى، أو يندرجان ضمن تيار فكري معروف، وفي الوقت نفسه يصعب أن يتابعه أحد لأن تفكيره غير قابل للاختزال في عناوين عريضة قد يتشكل منها أو حولها تيار خاص.

لكن، هل كان صالح يكره الكتابة في أعماق نفسه أو في جانب منها؟ توقّف في ثمانينيات القرن الماضي عن الكتابة ولم يعد إليها إلا بعد أن حبسه صديق له في بيت، ولم يفرج عنه إلا بعد أن سلم مقالة جاهزة للنشر، وخلال نحو 9 أشهر من العمل في «الأوان» لم يكتب صالح غير مقالتين اثنتين، أخمن أن ضربا من النفور من الكتابة لا بد أن يتملك بعض الكتّاب، عمال الكتابة أو عبيدها المداومون من أمثالنا على الأقل.

مسار حياته كان آل به مثل كثيرين من جيله إلى فردية مستقلة إلى أبعد مدى. صالح مثال المثقف المنفصل، لقد انفصل عن الأمم والأوطان والشعوب والقبائل والأحزاب، وتجسد انفصاله في معادل مادي إن صح التعبير، أعني اغترابه عن وطنه تونس طوال 33 عاما. تجسد أيضا في هجره الإيديولوجيات والعقائد والمعلمين والمدارس جميعا. لم يعد صالح يتماهى بشيء أو يركن إلى شيء. لقد فقد موارد عيشه المعنوية كلها، فقد إيمانه بالأفكار التقدمية والثورية التي كان يعتنقها، ولم يكن مستعدا لأن يرسي مركبه إلى موانئ الدين أو يلتحق بأي سلطة. أي جروح أحدثها هذا الانفصال القاسي في روح صالح ووجدانه؟ أي تقلبات فرضتها عليه «خفة الكائن التي لا تحتمل» هذه، وهو يجد نفسه هائما على وجهه، منفلتا من كل ارتباط؟ لا أعرف. لكن لا بد أنها تقلبات وجروح أليمة تلك التي جعلت صالح يمقت عقد الثمانينيات.

كيف يكون التفكير حين لا يبقى غير العقل المجرد أمام العالم؟ يكون مثل تفكير صالح بشير، نقديا، مفتوحا، لا يشبه شيئا ولا يكاد يشبه نفسه، لكن ربما يسكنه شعور بالخيبة وقدر من النخبوية. ما المعيار النقدي لدى المثقف المنفصل، الذي تخلى عن المعايير الجاهزة؟ إن لم يعمل على تأسيس معايير جديدة للنقد فإنه يجازف بأن يستبطن صورة العالم من حوله معيارا. والعالم في أيٍ من صوره لا يصلح معيارا.

كان صالح محتاجا إلى مرسى، إلى أرض صلبة، كي يعمل للتأسيس، وكان يمكن لعودته إلى تونس في صيف 2008 أن توفر الأرض الثابتة لانطلاق جديد، تأسيسي. على الأرض لأول مرة منذ كان الرابعة والعشرين من عمره شرع صالح على الفور يخطط لعمل أوسع أو لأكثر من عمل.

أي صراع خاضه صالح ضد عاداته وإيقاعات عمله المعتادة وهو يعمل متكتما على ما أفترض أنه كتابه الشخصي الأول؟ مات وهو يصارع. كأنما لا يحق لمن انفصل طويلا، أكثر من نصف عمره، أن يرسو إلى بر. كأنما عليه أن يبقى هائما، يصارع أمواج الحياة العابثة.

* كاتب سوري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top