جورجيا والنظام العالمي الجديد 1 - 2
يمكن اعتبار المواجهات العسكرية التي جرت في جورجيا امتداداً للنزاع الذي دار على القوقاز في القرن التاسع عشر بين روسيا وبريطانيا، ونتيجة مباشرة للصراع المحتدم على نفس المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن العشرين.تحتل جورجيا بؤرة المشهد الدولي منذ المعارك التي جرت على أراضيها بينها وبين القوات الروسية في الأسبوعين الماضيين؛ حيث فاضت معاني هذه المعارك ودلالاتها على حدود جورجيا وتضاريس القوقاز لتعبر البحار والمحيطات وتطول النظام العالمي. أخذت ملامح نظام عالمي جديد في التشكل والظهور منذ سنوات، وبالتحديد منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر مروراً باحتلال أفغانستان ثم العراق والورطة الأميركية المتزايدة فيهما وصولاً إلى الهزيمة المدوية لجورجيا حليفة واشنطن أمام روسيا. لا يعني قيام نظام عالمي جديد أن الولايات المتحدة الأميركية في طريقها إلى الزوال الآن كقوة عظمى أو حتى أن مكان القوة الأوحد في النظام الدولي قد أصبح يتسع لدولة أخرى إلى جانب أميركا. تشير كل مؤشرات القوة إلى أن أميركا هي القوة رقم واحد في العالم اقتصادياً وعسكرياً، حيث تنتشر القوات الأميركية في كل بقعة من بقاع العالم، وتمخر السفن الحربية الأميركية كل المحيطات والبحار في سيطرة شبه تامة. كما أن حجم الاقتصاد الأميركي هو الأكبر بوضوح وعملتها الدولية هي عملة التبادل الدولي ومخزن القيمة على المستوى العالمي، وبالرغم من كل ذلك غيرت الحرب في جورجيا موازين القوى العالمية، إذ أثبتت هذه الحرب أن قدرة الولايات المتحدة على دعم تحالفاتها الدولية لم يعد ممكناً بالسرعة نفسها قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويعني ذلك بوضوح لا لبس فيه نتيجة فائقة الأهمية من المنظور الاستراتيجي، وهي أن فرصة القوى الإقليمية والبازغة لفرض أمر واقع جديد ضد حلفاء الولايات المتحدة الأميركية قد تعززت بشكل كبير بسبب ورطة القوات الأميركية في الشرق الأوسط. تناقلت وسائل الإعلام أخبار المواجهة الأميركية-الروسية في مجلس الأمن حول جورجيا، في حين تناثرت أسماء أقاليم تاريخية في القوقاز مثل أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا على نشرات الأخبار دون ربط محكم لهذه الأحداث والمناطق بسياقها الإقليمي والدولي. كان معلوماً لكل ذي عينين أن معادلات القوى العسكرية القائمة بين جورجيا وروسيا تفيد بأن مجرد البدء في عمليات عسكرية سيعني هزيمة كاسحة للقوات الجورجية قليلة العدد وسيئة التسليح، وبالرغم من ذلك فقد أدى إعلان الرئيس الجورجي دخول جيشه أوسيتيا الجنوبية –التي يسيطر عليها الانفصاليون منذ بداية التسعينيات- إلى إطلاق شرارة الصراع في جورجيا، ويعود السبب في ذلك أن الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، مثله في ذلك مثل سلفه إدوارد شيفاردنادزه، أراد «توريط» الولايات المتحدة الأميركية مباشرة في الحرب التي تخوضها جورجيا ضد روسيا وتحالفاتها المحلية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية؛ وصولاً إلى إنهاء الاستقلال الفعلي لهذين الإقليمين وإعادتهما إلى حظيرة جورجيا. واستندت حسابات ساكاشفيلي إلى أن الولايات المتحدة الأميركية -باعتبارها القوة العظمى في النظام العالمي- لن تسمح بهزيمة جورجيا حليفتها في القوقاز، وهو ما يمكن تبليسي من فرض شروطها على الانفصاليين الأبخاز والأوسيتيين. ولكن رد الفعل الروسي العنيف بالترافق مع البراعة الروسية الدبلوماسية، وعرقلتها لخطط واشنطن في مجلس الأمن سمحا لموسكو في النهاية بفرض أمر واقع عسكري على الأرض الجورجية الآن. لذلك تطالب جورجيا ومعها الولايات المتحدة الأميركية بانسحاب القوات الروسية من جورجيا، وهو ما فعلته موسكو جزئياً، كما تطالبان بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل دخول القوات الروسية، وهو أمر لم يحدث في تاريخ مجلس الأمن إلا نادراً حيث يفرض –في أغلب الأحوال- الطرف الذي نجح عسكرياً على الأرض شروطه.من مستوى تحليلي آخر يمكن اعتبار المواجهات العسكرية التي جرت في جورجيا امتداداً للنزاع الذي دار على القوقاز في القرن التاسع عشر بين روسيا وبريطانيا، ونتيجة مباشرة للصراع المحتدم على نفس المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن العشرين بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وحتى اللحظة.وبمقتضى هذا الصراع تصطف الولايات المتحدة الأميركية وأمامها تركيا ومعها أذربيجان وجورجيا في مواجهة روسيا وأمامها إيران ومعها أرمينيا، وعلى المعسكرين تتوزع الأطراف المحلية القوقازية المتناحرة، وينزع هذا الاصطفاف عن الصراع الدائر الآن صفة المحلية، إذ هو بمنطق الجغرافيا والتحالفات السياسية، صراع إقليمي دولي يدور بالوكالة على أرض جورجيا بين أطراف محلية قوقازية في الواجهة وأطراف إقليمية ودولية في الخلفية. وبعطف الصراع التاريخي بين أعراق القوقاز عموماً، وجورجيا خصوصاً (الأبخاز والأوسيتيين والجورجيين)، على الصراع الدائر حالياً، لأمكننا تصور التعقيد والتشابك الذي يحيط بهذا الصراع. كانت جورجيا عضواً في الاتحاد السوفييتي السابق حتى استقلالها عام 1991، وبسبب موقعها المفتاح في القوقاز وعلى البحر الأسود وتحالفاتها المعلنة مع واشنطن، فقد استهدفت موسكو دعم حركتين انفصاليتين فيها هما أبخازيا وأوسيتيا للتأثير في حسابات الجدوى السياسية لجورجيا وصولاً إلى تخفيف اندفاعها نحو التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يميز سياسة تبليسي الخارجية منذ استقلالها. وبسبب النجاح الساحق لروسيا في حربها مع جورجيا عسكرياً ودبلوماسياً، فقد تشجع البرلمان الروسي وأعلن اعترافه باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، من أجل جني ثمار المكاسب العسكرية التي حققتها موسكو على الأرض.* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة