هجمات مومباي وخيارات الهند الاستراتيجية (1- 2)
قدمت أحداث مومباي الإرهابية نموذجاً فريداً لأنماط إدارة الصراعات الإقليمية المفتوحة على احتمالات متباينة، بحيث إن اتخاذ الرد المناسب يعد محدداً أساسياً للطريق الذي سوف تسير عليه المواجهة الهندية-الباكستانية في الفترة المقبلة. حتى الآن لم تقم نيودلهي بردة الفعل، بمعنى أنها تدرس خياراتها بعناية قبل الإقدام على رد، بسبب التشابكات التي تحيط بالرد الهندي، سواء على الجانب الداخلي الباكستاني أو على جانب العلاقات الهندية-الأميركية التي تحسنت كثيراً في السنوات الأخيرة، وليس انتهاء بالعلاقات الباكستانية-الأميركية وحرب البلدان معاً على الإرهاب. يبدو أن الرد الهندي سيكون قوياً بما يكفي لاستعادة الهيبة الهندية التي تعتقد نيودلهي أنها اهتزت بفعل هذه الهجمات، إذ بالنظر إلى الخطوط البيانية للصراع التاريخي القائم منذ عام 1947 بين الطرفين، كانت خطوات التصعيد والردع المتبادل مؤكدة، ولكنها تمت دوماً وفق حسابات استراتيجية فائقة الدقة للوصول إلى الهدف المطلوب دون زيادة أو نقصان، وبالرغم من امتلاك الطرفين ترسانة نووية معلومة ومشهرة بتفجيرات علنية في أواخر التسعينيات، فإن تصاعد التوتر استمر مميزاً للعلاقات بين الجارين اللدودين ولكن مع ملمح أساسي مفاده أن نشوب حرب شاملة بينهما قد صار أمراً مستبعداً، نظراً لامتلاك كل من نيودلهي وإسلام آباد لقدرات نووية عسكرية، فضلاً عن امتلاك القدرة على القيام بالضربة الثانية النووية.أصبحت الهند الدولة الإقليمية العظمى ذات القدرات النووية والحضور الدولي الكبير في مأزق بعد وقوع الأعمال الإرهابية الأخيرة في مومباي؛ فمن ناحية لا تستطيع السكوت عن عمل إرهابي من هذا النوع يقوض هيبتها أمام جارتها اللدود، ومن ناحية أخرى فإن باكستان، المتهمة هندياً بالوقوف وراء التفجيرات، هي أيضاً دولة نووية. ويزيد في «الطنبور» نغمة أن باكستان متحالفة مع واشنطن بشكل يجعلها دولة محورية في سياقات الحرب على الإرهاب، وهو ما يجعل يد الهند مغلولة نسبياً في القيام برد انتقامي، يبدو محتوماً بالنظر إلى تاريخ الصراع بين الطرفين. باختصار تقف الهند أمام خيارات متعددة للرد على العمليات، ويمضي الوقت وتستمر الحسابات الاستراتيجية المعقدة، والتي تتركز على سؤال: ما الأهداف التي يمكن ضربها وتؤدي الغرض الهندي من الردع والحفاظ على الهيبة، ولكن دون أن تضرم النار في حرب جديدة بين الطرفين؟ خيارات الهند كلها محفوفة بالمخاطرة ومشكوك في نجاحها كلياً، ولكن البقاء من دون رد، يبدو من المنظور الهندي، أفدح الخيارات ثمناً. ولذلك فالهدوء الحالي لا ينبغي أن يخدع المتابعين، إذ تفاضل الهند الآن بين خيارات الرد المتنوعة وتقيس تداعياتها، بينما الأمر الذي سيمنعها من القيام برد عسكري هو قيام باكستان بتنازل سياسي مهم لمصلحتها. تقوم التقديرات الهندية على معطيات أساسية أولها أن جهاز المخابرات الباكستاني (أي إس أي) هو الذي خطط لهذه الهجمات، وهو ما يعني أن أجزاء على الأقل من الحكومة الباكستانية دبرت لهذه الهجمات أو علمت بها قبل وقوعها في الحد الأدنى. وثاني المعطيات الهندية يتلخص في أن «عسكر طيبة» التي نفذت الهجمات هي مجموعة كشميرية تربت في أحضان المخابرات الباكستانية ولكنها احتفظت لنفسها بمسافة عنها منذ 2002، وهو الأمر الذي يجعل المخابرات الباكستانية- من المنظور الهندي- مسؤولة عن أحداث مومباي؛ حتى ولو لم تصدر الأوامر بتنفيذها لأنها غضت البصر عنها. والمعطى الثالث هو تقدير مفاده أن الحكومة الباكستانية المدنية الحالية ضعيفة ومنقسمة على نفسها وفاقدة للسيطرة على الأمور لدرجة عدم القدرة على منع هكذا أعمال ضد جارتها اللدود، وهذا يعني أن بعض أجزاء المخابرات العسكرية الباكستانية قد أصبحت تنفذ عمليات بشكل مستقل ودون الرجوع لآليات صنع القرار المتبعة. والتقدير الأخير يعني أن ضربة عسكرية هندية سوف تسقط الحكومة الباكستانية وتفتح الطريق أمام مجموعات إسلامية متطرفة لتولي زمام السلطة. حتى الآن طلبت الهند تسليمها عشرين شخصية باكستانية، بينهم الجنرال حميد غول الرئيس السابق لجهاز المخابرات الباكستانية الذي يعتقد بصلاته الواسعة والمتشابكة مع الإسلاميين الباكستانيين، وتقول إنهم متورطون في العملية الإرهابية. وذلك على الرغم من أن الهند تعلم جيداً صعوبة تنفيذ ذلك، ولكنها تريد تشديد الضغط السياسي على إسلام آباد وأن تفاقم التناقضات الداخلية الباكستانية. ترى نيودلهي أن الرادع الثاني الذي تملكه إسلام آباد بعد القنبلة النووية هو تحالف الأخيرة مع واشنطن، ولذلك فقد كان أول ما فعلته الحكومة الباكستانية بعد هجمات مومباي هو تلويحها بأن تحريك الهند لقواتها المسلحة على الحدود مع باكستان سيدفع الأخيرة إلى سحب قواتها البالغ عددها مئة ألف عسكري من الحدود مع أفغانستان ورصهم على الحدود الهندية. وأظهرت عمليات حرق القافلات المتوجهة إلى قوات الناتو في أفغانستان، أهمية خطوط التموين التي تمر عبر باكستان للقوات الغربية العاملة هناك. ومن شأن نقل القوات الباكستانية من الحدود الأفغانية إلى الحدود الهندية أن يترك هذه المنطقة الملتهبة لترتع فيها حركة طالبان الأفغانية وحركة طالبان الباكستانية وتنقل عبرها الأسلحة والتجهيزات، وهو ما سيعرض القوات الأميركية في أفغانستان للخطر، وتأسيساً على ذلك تعتقد نيودلهي أن واشنطن ستتحرك -في حدود- لمنع إسقاط حكومة باكستان الديمقراطية المنتخبة.* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة