عايز أقلب مصر

نشر في 25-03-2009
آخر تحديث 25-03-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي «عاوزه أقلب مصر...»، عبارة سمعتها في برنامج تلفزيوني يقدمه الفنان حسين فهمي على قناة «الحياة» المصرية حديثة العهد. العبارة قالتها الفتاة الصغيرة نفسها التي أثارت ضجة بموضوع التعبير الذي كتبته قبل سنوات انتقدت فيه حال مصر مما أدى إلى ترسيبها في الامتحان. الصغيرة التي أصبحت اليوم شابة في السنة الأولى بكلية دار العلوم قالت في البرنامج التلفزيوني إن الرئيس ذاته كان قد كلمها وطمأنها بألا تخشى أحداً بعد الآن، ولا أدري إن كان اللقاء قد أُجري معها لكونها متفوقة، أو لأجل موضوع التعبير إياه، أو لأن رئيس مصر كلمها، ولكن الواضح أنها طموحة وثورية وتريد أن تصبح صحافية كبيرة ثم برلمانية، ثم تقلب مصر، هكذا ببساطة قالت «عاوزه أقلب مصر» دفعة واحدة!

حكاية أننا «نقلب مصر» لا تخص هذه الصبية فقط، هي عبارة يكثر تردادها، وقد سمعتها في مصر في أكثر من لقاء شخصي وأحيانا تلفزيوني أو قرأتها في صحيفة يومية، يرددها الكبار والصغار معا، ويشجعهم عليها مَن يسمعهم، وكأنها أمر محمود. هذه العبارة تعد من أخطر ما سمعت، ليست لأنها عبارة ثورية أو لأن المتحدث فعلا سيقلب مصر، خطورة العبارة في كونها لا تسمع في البلدان المتقدمة وعلى العكس فهي شائعة في دول العالم الثالث والرابع والخامس، فلا تجد شاباً بريطانياً مثلا أو أميركياً أو ألمانياً أو يابانياً يريد أن يقلب بلده.

البريطاني والأميركي والياباني يريد كل منهم أن يحسِّن في القوانين المنظمة للبيئة، أو أن يغيِّر في قوانين الضرائب أو الهجرة المتزايدة، أو أن يطور طريقة عمل بعض المؤسسات من خلال تشريعات جديدة، يريد ذلك لأنه مهما اختلف مع مَن يديرون شؤون البلاد والعباد إلا أنه يؤمن بشرعية المؤسسات التي تقوم عليها الدولة ويؤمن بنزاهة العملية السياسية التي أوصلت هؤلاء إلى الحكم، كما يؤمن بصلابة الديمقراطية التي أنتجت الحكم والمعارضة في آن معاً بفعل تراكم تاريخي عريق للممارسات الحرة. فهو لا يريد أن «يقلب البلد» رأسا على عقب إنما يريد أن يحسِّن من أدائه ويطوره.

مشلكة «عاوزه أقلب مصر» تكمن في عدم الإيمان بأن هناك شيئا مما هو قائم يستحق أن يبقى، كل شيء وأي شيء هو فاسد، وذلك في ظني يعود إلى تربية ما بعد 1952، عندما حدثتنا جماعة الثورة عن العصر البائد والنظام الملكي الفاسد، أي أن ما كان قائماً قبل الثورة، كان على إطلاقه جملة وتفصيلا أمراً فاسداً من الصناعة إلى التجارة إلى التعليم إلى سلوك آبائنا وأمهاتنا وعاداتنا وتقاليدنا. لذا لزم القلب أو الانقلاب، وكأن مصر وجدت البارحة، أو وجدت يوم وجد هؤلاء «الانقلابيون».

مصر يا جماعة صار لها آلاف السنين، وكان من المفترض أن تبني كل سنة على السنة التي قبلها، مشكلة مصر أن الثورة قالت لها إن ما قبلي كان فاسداً فتركنا المنظومة القيمية الحاكمة للبلد وراءنا، وجاء عهد الانفتاح فأصابت القاهرة حالة من اللاأخلاقية التجارية، لذا لا نجد منظومة قيمية حاكمة، أو نرى قيما مترقرقة ومهتزة وقلقة.

عقلية «القلب والانقلاب» هي دكتاتورية في الأساس تلغي المشاركة في تعديل الأوضاع، تشبه دكتاتورية الأنظمة الحاكمة، وتشبه دكتاتورية الانقلابات العسكرية التي سادت العالم العربي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عقلية «فيها لأخفيها»، أي أن الفرد منا يطالب بقلب الأشياء لا البناء عليها وتطويرها لأنه ليس هو المسيطر، وكأن الغاية ليست تحسين ما هو قائم إنما لكي أكون أنا على رأس الأمر. في الغرب نرى عقلية تحسين الأوضاع لأن الناس يؤمنون بمتانة نظامهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي كلف بناؤه على مدى عقود طويلة في كثير من هذه الدول الغربية الكثير من الجهد الإنساني المشترك والعمل السياسي، وبداية كلف الكثير الكثير من الدم في الحروب الأهلية والثورات والحروب العالمية، هم دفعوا ثمن ما وصلوا إليه غاليا لذا لا يستهترون به ولا يريدون أن يقلبوه، بل يعملون جاهدين لتطويره وتكييفه مع متطلبات العصر الجديدة.

باراك أوباما، ورغم كل الاختلاف الكبير الذي يمثله كفرد وعضو في الحزب الديمقراطي مع الحزب الجمهوري الذي حكم الولايات المتحدة قبله، فإن شعار حملته الانتخابية الرئاسية كان «التغيير» Change. ولو كان نفخ صدره وريشه ورفع شعار «عاوز أقلب أميركا» لانقلب الجميع عليه، وما كان اليوم ليقبع في البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة.

ملاحظة أخيرة، إن حسين فهمي ولثقته بنفسه قدم نموذجاً للمحاور المقبول على شاشاتنا... فقد استمع إلى آراء الفتاة وسألها مستفسراً لا ملقناً على عكس السواد الأعظم من مقدمي البرامج الذين يرون في البرامج فرصة لإقناع العامة بأن آراءهم لا تقل أهمية عن رأي الضيف. المفروض أن مقدم البرنامج هو نائب عن المشاهد، يسأل أسئلة المشاهد ويستفسر، ولا «يبخ» في وجه الضيف عبارات جاهزة هي في الغالب لا تنم عن ثقافة إنما تكشف عن جهل.

قد تنضج هذه الفتاة مع الأيام وتقرر أن عملية «قلب مصر» ليست ضرورية، وأن الأهم هو بناء وتطوير ما هو قائم، ولكن ما نحتاج إليه اليوم ليس نضج الصغار إنما نتمنى للكبار النضج أيضا، فللمراهقة أوان.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top