دواء للحالة العربية... نحتاجه اليوم وغداً

نشر في 12-02-2009
آخر تحديث 12-02-2009 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري الموقف الذي وقفه الملك عبدالله بن عبدالعزيز في «قمة الكويت» العربية بالدعوة إلى المصالحة العربية وبدء صفحة جديدة بين الأطراف العربية المختلفة، ينبغي ألا يُترك تحت رحمة الأجندات الخفية أو لعوامل المصادفة والأمزجة الشخصية التي ظلت تعبث بالعمل العربي المشترك... وهذه بالدرجة الأولى مسؤولية الدبلوماسية السعودية، دون أن نعفي العواصم العربية المعنية والجامعة العربية من المسؤولية. فهذه الفرصة إن ضاعت، فلا يمكن أن تعود لعقود وعقود يدفع خلالها العرب المزيد من الدماء والأرواح والمصالح.

فقد غيّر خطاب الملك المناخ السياسي السائد عربياً وإقليمياً ودولياً، أياً كانت «الممانعات» التي تلت... وستتلو! ومثلت دعوة ملكي البحرين والأردن، حمد بن عيسى وعبدالله بن الحسين، إلى مائدة الغداء الجامعة لدى الملك عبدالله بن العزيز- وهما ملح المائدة العربية- رمزاً عربياً يقول بالبنط العريض: نريد رجالاً قادة يسعون إلى توحيد الصف العربي بمنأى عن أي أهواء أو أغراض.

ورغم تواضع النتائج الملموسة، فإن انعقاد اللقاء الوزاري العربي أخيراً في أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، بادرة هي الأولى من نوعها وتمثل تحركاً عربياً طال انتظاره. وهدفها توحيد الصف الفلسطيني ووقف، أو أقلها تقليص، التدخلات غير العربية في شؤون العرب في إطار توافق عربي.

وتلك محاولة في الصميم، غير أن نجاحها يتوقف على ما يعده لها القائمون بها. وفشلها- لا سمح الله- يساوي المصير العربي لعقود. فلننتظر لنرى. فثمة اجتماعات مقبلة ضمن هذا التوجّه، حسبما أعلن... اجتماعات نرجو أن تنعقد وتكون أكثر فعالية.

غير أن حضور وزير الخارجية السعودية عاصمة الإمارات، بمشاركة مصرية- بما لمصر من ثقل عربي معروف- لا يخلو من مغزى سياسي خليجي وعربي.

وعلى الصعيد الدولي فإن قراءة عاجلة للتطورات الأخيرة- وعلينا عدم المبالغة- والتي تمثلت في اتصال الرئيس الأميركي الجديد، باراك أوباما، بالملك عبدالله وسواه من الزعماء العرب، ثم قراره بإرسال جورج ميتشل، برصيده السياسي المعتدل نسبياً إلى الأطراف العربية وإسرائيل، والمقابلة «الأولى» التي خص بها أوباما قناة «العربية»، توحي بشيء مـن بداية «الانفراج» في العلاقات العربية- الأميركية وذلك ما نأمل استمراره، مع عدم استبعاد لجوء القوى المضادة لهذا الانفراج، القيام بعملية «دموية» كبيرة، تعيد عقارب الساعة إلى الوراء!

وإذا كانت «عودة الدفء للتفاهم السعودي- الأميركي»، حسب تعبير سابق للأمير سعود الفيصل، قد أعطت شيئاً من الثقة للوضع الخليجي المتأرجح، فإن بداية هذا «الانفراج» وإن مثّل ركيزة مهمة لأمن الخليج، فإنه لا يغطي استراتيجياً أضلاع حوض الخليج المختلفة، ولابد من مشروع جسور يضم أطراف هذه المنطقة الحساسة ويأخذ في الحسبان مختلف توازنات القوى وتوتراتها.

عبر عقود وأمن الخليج يقوم على «التضاد» أعني تواجه القوى في شيء من توازن الرعب: بريطانيا والغرب ضد الاتحاد السوفييتي، العرب وإيران على طرفي نقيض سواء في عهد الشاه أو عهد الثورة، أنظمة الخليج المحافظة ضد الأنظمة العربية الراديكالية... وهكذا.

«الحسابات الصحيحة» في حوض الخليج إذا أخذناه بامتداده الاستراتيجي الأوسع تعتبر رياضيات شديدة التعقيد، ولكن كمبيوتر المستقبل الخليجي لن يعمل في النهاية إلا على أساسها، إذا أريد الانتقال من حالة التضاد إلى حالة التشارك، التي تعني بالتأكيد تبادل المصالح في إطار من الثقة المتبادلة، قبل كل شيء.

يقتضي منطق العالم المعاصر والنهج السياسي المتحضر أن تجلس أطراف «المثلث» في حوض الخليج، وهي المملكة العربية السعودية مع منظومة مجلس التعاون، وجمهورية إيران الإسلامية، وجمهورية العراق عندما تستقر أوضاعها، أن تجلس جنباً إلى جنب، كما هو قدرها في الجوار المصيري والجغرافي، وأن تدعو إليها بلا تحرج وبواقعية سياسية كل الأطراف الدولية المعنية بمنطقة الخليج من الولايات المتحدة، إلى الاتحاد الأوروبي إلى الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي إلى روسيا الاتحادية وصولاً إلى قوى الشرق الآسيوي من هند وصين ويابان، ليضع الجميع مبادئ الأمن والتعاون في حوض الخليج لعام 2010 وما بعد.

لقد اتضح أن منطق (إما وإما) حبله قصير. إما أمريكا وإما العراق أو إيران؟ وذلك بانتظار مواجهة أخرى... وحـرباً رابعة أو خامسـة... أي «حرب تلد أخرى»، كما عنون سعد البزاز كتابه.

لماذا لا تبنى أسس التعاون الإقليمي بمشاركة القوى المعنية كافة، كما حدث في منظومة الأمن والتعاون الإقليمي الأوروبي بالأمس، وكما يحدث في منظومات الأمن والتعاون الآسيوي اليوم؟ هذا يعتمد على إقامة جسور الثقة من جانب إيران بالذات وأن تصبح عضواً مسؤولاً في المجتمع الدولي، خصوصاً أمام مبادرات الرئيس الأميركي الجديد نحوها.

منذ عام 1993، وفي ندوة استراتيجية بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي برعاية الشيخ محمد بن زايد ولمناقشة كتاب «مقاتل من الصحـراء» للأمير خالد بن سلطان، دعا كاتب هذه السطور إلى مثل هذا التفاهم الاستراتيجي الواسع بلا استثناء أو استبعاد لأي طرف صاحب مصلحة في الخليج أو صاحب قدرة على تفجير أوضاعه! وللأمانة فإن أصل هذه الفكرة كانت تتوارد في رؤى فرنسية بشأن أمن الخليج الأمر الذي يدل على أن مثل هذا التوجّه وارد في التفكير الغربي العملي والواقعي وليس مجرد حلم من أحلام اليقظة الخليجية.

ولكن بلا أوهام فإنه مازال حلماً بمنظار الأوضاع المتردية في علاقات دول المنطقة، وانعدام جسور الثقة بينها وعدم امتلاكها لخطاب وتعامل متكافئ ومقنع مع القوى الدولية الضاغطة... إلى أن تدق ساعة السلوك الاستراتيجي المسؤول لدى من يعنيهم الأمر، وتتعلم كيف تعقلن خلافاتها للالتقاء حول قواسم مشتركة لبناء جسور الثقة فيما بينها.

والواقع إن التهديد الأميركي في حينه امتد بعد احتلال العراق ليشمل الكيان السعودي الذي يمثل الكيان العربي الوحدوي الأكبر، والأكثر تأثيراً في المنطقة ويضم مناطق عربية عدة من نجد إلى الحجاز إلى الإحساء إلى عسير.

بين غيوم تلك الفترة الضبابية قبل سنوات وجدت من الضروري أن أقول في مجلة عربية مستقلة ضمن مقابلة فكرية: «أريد أن أضيف بلا تردد أو مداراة إيديولوجية لأحد، إن الحفاظ اليوم على تماسك الكيان السعودي أمانة في عنق جميع الوحدويين العرب، وكفانا ما أصابنا من نكاياتنا السياسية المتبادلة»- (مجلة «المستقبل العربي» الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت (2004)، عدد إبريل، ص 12).

غير أن القيادة السعودية، بالمبادرات العملية للملك عبدالله بن عبدالعزيز، ولم يكن ذلك سهلاً، استطاعت أن تسجل العديد من النقاط، ليس لمصلحة السعودية فحسب، وإنما لمصلحة الوضع العربي، ولمصلحة الاستقرار والتعايش فيه مع كل الجوار وعلى جانبيه... وذلك هو مغزى دعوة الملك السعودي للمصالحة في «قمة الكويت» التاريخية.

والحال أن فروسية القفز العالي التي حوَّلها الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى نهج سياسي، داخلي وخارجي، أثمرت اليوم، وصارت تقدم ما يمكن البناء عليه مستقبلاً. وعلى الصعيد الخارجي كان بإمكان المراقب أن يلاحظ منذ سنوات أن دبلوماسية القفز العالي استطاعت بمبادرات الملك عبدالله بن عبدالعزيز، منذ أن كان ولياً للعهد، الوصول إلى موسكو وإلى عواصم الشرق الآسيوي مروراً بطهران، إضافة إلى طرح مبادرة السلام العربية في بيروت، التي نعتقد أنها تمثل أهم ورقة ضغط على إسرائيل، ويمكن اعتبارها هجوم «السلام» العربي الشامل... فالوقت وقتها، وليس من الحكمة الدعوة- دبلوماسياً- للتخلي عنها، وإن كان من الحكمة التفكير في بدائلها الفعّالة والرادعة لو أحبطها الجانب الآخر... وكما يقال: فإن الاستعداد للحرب يمنع الحرب... وعلى إسرائيل أن تـدرك، كما قال الملك عبدالله في خطاب «المصالحة» بالكويت: إن مبادرة السلام العربية لن تبقى إلى الأبد معروضة فوق الطاولة!

*مفكر من البحرين

back to top