رايات فئوية

نشر في 19-04-2009
آخر تحديث 19-04-2009 | 00:00
 محمد سليمان «الطبيب بحاجة إلى بدلة وقميص وملابس أخرى لكي يستطيع الظهور أمام مرضاه بالمظهر اللائق»... قال نقيب الأطباء في مطلع هذا الشهر وهو يحتج على تدني رواتب الأطباء وسوء أحوالهم، وطالب الدولة بتنفيذ وعودها، ورفع هذه الرواتب لمواجهة الغلاء، وللإبقاء على مكانة الطبيب في المجتمع، لكن وزير الصحة احتمى بالبلاغة والمجاز الشعري عندما رد على مطالب الأطباء، قائلاً: «الأطباء ليسوا كغيرهم... فهم ملائكة»، وهو رد مراوغ يقفز على ثوابت الواقع وحقائقه، ويطيح بحقوق الأطباء عندما يخرجهم من دائرة البشر العاديين الذين يأكلون ويشربون ويحتاجون إلى ملابس ومساكن وضرورات حياتية أخرى.

والرد يفضح في الوقت نفسه سعي الدولة إلى التحرر من كل أعبائها وواجباتها بتقسيم الناس إلى ملائكة لا مطالب لهم وشياطين أو عفاريت تستطيع دون عون من أحد تدبير أمورها، لكن هذا السعي ارتطم قبل عام بأزمة الغذاء والغلاء ثم بالأزمة الاقتصادية العالمية التي مازالت ترج العالم وتشيع الكساد والركود والاحتجاجات والمظاهرات في الغرب والشرق، وتجبر عتاة المفكرين الرأسماليين على المطالبة باستعادة دور الدولة كمنقذ وحارس وراع ومسؤول عن حماية أمن المجتمع وتماسكه.

في الشهور الأخيرة تراجعت المطالب السياسية وتوارت أعلامها وشعاراتها، وطفت على السطح المطالب الفئوية، وصارت محوراً للغضب وراية تقود الاعتصامات والاحتجاجات والإضرابات، فالجائع والعاطل والمهدد بالجوع والفلاحون البسطاء الذين تراكمت عليهم الديون للبنوك، وهم بعشرات الألوف، سيسعون أولاً وثانياً وثالثاً لإزاحة شبح الجوع والحبس والبطالة، وهم يقولون «يا روح ما بعدك روح» ويؤجلون المطالبة بالإصلاح الدستوري والديمقراطية وتداول السلطة، خصوصا أن هذا التداول لم يعرفه الناس على مدى نصف قرن أو أكثر، ولم يروا أحزاب المعارضة تؤصله أو تمارسه رغم ضعفها وهشاشة وجودها وعجزها عن الفعل والتأثير.

المطالب الفئوية هي التي تحرك الشارع الآن وتوجهه، وهي التي تفجر الإضرابات والمظاهرات، فقبل أيام أغلق الآلاف من أطباء مصر عياداتهم الخاصة في مختلف المحافظات استجابة لدعوة النقابة العامة، ونظم عشرات الأطباء وقفات الاحتجاج أمام مقار نقاباتهم، وأعلن نقيب الأطباء «أن الإضراب هدفه لفت انتباه الحكومة والشعب إلى مطالب الأطباء، وأنه مازال ينتظر المفاوضات مع الدولة، وأكد أن النقابة تقدر ظروف البلد».

وقبل إضراب الأطباء كان لطلاب الجامعات الذين تظاهروا في 16 أبريل مطالبهم الخاصة بسعر الكتاب الجامعي، والرسوم والمصاريف الجامعية الأخرى، والحرس الجامعي، كما كان لأساتذة الجامعة مطالبهم ووقفاتهم الاحتجاجية، والمخيف هنا هو هذا التشظي الذي لم يعتده المجتمع المصري، والذي أصبح الآن أمراً عادياً ومطلوباً ومرحباً به من أغلبية الكتّاب والمثقفين والإعلاميين.

فكل فئة تحتج وحدها على تدني أجور ورواتب المنتمين إليها، وتسعى بالاعتصام أو الإضراب إلى تحسين أجورها: الأطباء– أساتذة الجامعات– القضاة– المدرسون– الصيادلة– الضرائب العقارية– العمال وغيرهم. وكأن المجتمع قد انقسم إلى مجتمعات أو قبائل وعشائر عديدة لكل منها أهدافه ومصالحه وتطلعاته.

وقد راجت في الفترة الأخيرة مطالبة كل فئة بكادر وظيفي خاص يُميز أجور المنتسبين إليها عن غيرهم، وكأن الدولة قد توارت أو غابت، ولم يعد هناك من يرى الخريطة المجتمعية أو يرصد المتغيرات وموجات الغلاء المتتالية ومعادلات الأجور والأسعار التي اختلت بشكل فاضح، ويسعى من ثم لمواجهة هذا التشظي بتعديل منظومة أجور ورواتب موظفي الدولة، ورفع الحد الأدنى بصورة تمكن المواطن من مواجهة الغلاء والحياة في زمنه، وتحديد سقف لهذه الأجور يضع حداً للإسراف والنهب والفوضى، وشراء ولاء البعض برواتب خرافية تضعهم في صفوف «المليونيرات» في الوقت الذي لا يجد فيه طبيب الوحدة الصحية ما يكفي لشراء بدلة وملابس أخرى تعينه على التشبث بمكانته وممارسة مهنته بشكل لائق.

في أوائل الثمانينيات رفعت الدولة الحد الأدنى للأجور إلى 35 جنيهاً، وكان الجنيه في ذلك الوقت مازال «لحلوحاً» قادراً على الإزاحة و«اللحلحة» ومنح حامله هيبة وأمناً لا يُستهان بهما، وهذا الحد مازال ساري المفعول رغم انتهاء صلاحية «اللحلوح» منذ زمن بعيد، وقبل أكثر من عام طالب الاتحاد العام للعمال بتغيير منظومة الأجور ومضاعفة الحد الأدنى عشر مرات على الأقل، لكن الدولة تجاهلت هذه المطالب ربما لشغل المواطنين عن القضايا والمطالب السياسية بقضايا الغذاء والغلاء والمطالب الفئوية.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top