المعاهدة العراقية-الأميركية: من الاحتلال إلى الاحتلال! (3-3) الاتفاقية وإكراه الأمر الواقع!

نشر في 05-12-2008
آخر تحديث 05-12-2008 | 00:00
 د.عبدالحسين شعبان لم تستطع الحكومة العراقية، وليس بإمكانها ضمن موازين القوى والمواصفات والظروف السياسية التي تعيشها والمصاعب التي تعانيها رفض الاتفاقية، لأن الأمر لا يتعلق برغبة أو موقف فحسب، بل يتعلق بمصيرها ومستقبلها، خصوصاً وهي التي تقرّ بأن قوات الأمن والجيش (العراقية) لاتزال غير مؤهلة بالكامل لتسلّم مقاليد الأمور، لاسيما الدفاع عن العملية السياسية ضد التهديدات الخارجية أو التهديدات الداخلية، بما فيها أعمال الأرهاب والعنف، حتى وإن كانت تدرك أن الاتفاقية مجحفة وغير متكافئة وستكبّل العراق بالمزيد من القيود التعاقدية وستكون المكافأة السياسية للاحتلال العسكري.

وكان روبرت وود الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية قد أكدّ أن صبر الولايات المتحدة بدأ ينفد، الأمر الذي دفع الرئيس بوش إلى إبداء غضبه، خصوصاً أنه لم يبق له سوى أسابيع ليترك البيت الأبيض «يناير 2009» وهو ما حصل فعلاً، رغم الممانعات والتلكؤات للقيادات العراقية والمناقشات التي جرت في مجلس النواب.

وكانت التعديلات العراقية قد تضمنت مقترحات من شأنها إخضاع الجنود الأميركان للولاية القضائية العراقية، الأمر الذي رفضته واشنطن بشدة ولا يمكنها تحت أي باب أو ذريعة الموافقة عليه، حتى إنْ جاء مخففاً ومشروطاً، وهي التي مانعت من الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية 1998، بل حاولت إجهاض مشروع محكمة روما الذي وقفت خلفه بعض البدان الأوروبية، وذلك لمنع مساءلة جنودها خارج ولايتها القضائية.

وعندما اضطرت الولايات المتحدة للتوقيع على ميثاق روما قبيل سويعات من إغلاق باب التوقيع العام 2000، لجأت إلى ذلك تكتيكياً للتأثير على صياغة النظام الأساسي، ثم أعلنت انسحابها بعد دخوله حيز التنفيذ في العام 2002.

أما الأمر الثاني فيتعلق بتمديد الاتفاقية أي ما بعد العام 2011 حيث تنتهي فيها مدّة بقاء القوات الأميركية في العراق، وهو الأمر الذي طالبت فيه بعض الكتل السياسية من داخل وخارج البرلمان.

ورغم أن الجدل يطول ويحتدم والمواقف تتقارب وتتباعد، لكن الجوهري في الأمر أن هناك ثلاثة اتجاهات أساسية تحكم الموقف العراقي وهي متعارضة وغير موحدة. الأول وهو الموقف الرافض ويضم الكتلة الصدرية وهيئة علماء المسلمين والمؤتمر التأسيسي وقوى وشخصيات مختلفة ومتنوعة من اليسار والقوميين والإسلاميين وصولاً إلى قوى المقاومة المسلحة. ولعل هذه الممانعة لاعتبارات مبدئية بالدرجة الأساسية.

أما الموقف الثاني فهو القوى الممانعة تكتيكياً لاسيما وهي جزء أساس من العملية السياسية، وهذه تتثمل بكتلة الائتلاف وجبهة التوافق بالدرجة الأساسية، وهي محكومة بضغوط داخلية وخارجية، ومعها قوى أخرى تتذبذب بين الرفض والممانعة.

أما الموقف الثالث فهو الذي يتمثل في موقف القيادات الكردية أساساً، ومع قوى لا تعبّر صراحة عن تأييدها الواضح، مثلما تفعل الحركة الكردية.

وإذا عدنا لمشروع الاتفاقية التي تنشر لأول مرة، فقد بذل الباحث جهوداً مضنية مع جهات رسمية وغير رسمية للاطلاع على نصها فلم يفلح، حتى حصل على النص الذي عرض للمناقشة المحدودة أخيراً، وهو يتضمن إضافة إلى مشروع الاتفاقية حول ما سمي «الوجود المؤقت للقوات الأميركية في العراق»، رسالة من الرئيس بوش إلى رئيس الوزراء المالكي واتفاق الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة بين العراق والولايات المتحدة.

احتوت الاتفاقية على ديباجة و31 مادة وأكدت الديباجة أهداف الاتفاقية ولخصتها بتعزيز الأمن المشترك والمساهمة في السلم والاستقرار الدوليين ومحاربة الإرهاب والتعاون في مجالات الأمن والدفاع وردع التهديدات الموّجهة ضد سيادة وأمن العراق ووحدة أراضيه. وتضمنت عدداً منها المبادئ التي أكدت السيادة والتفاهم والتعاون المشترك وعدم الإضرار بسيادة العراق على أرضه ومياهه وأجوائه، كما أكدت أن البلدين شريكان في السيادة ومستقلين ومتكافئين.

وإذا ما أردنا إخضاع هذه المبادئ والأهداف التي احتوتها الاتفاقية للقانون الدولي الاتفاقي والعرفي ولمعاهدة فيينا، فسنلاحظ شكلياً أنها حاولت إيجاد نوع من التوافق معها، لاسيما التأكيد على السيادة والاستقلال والتكافؤ والأهداف التي تنسجم مع ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي المعاصر، لكنه من الناحية العملية أعفت أفراد القوات المسلحة الأميركية وأفراد العنصر المدني كما أسمته من الخضوع للولاية القضائية العراقية، رغم أنها دعت إلى التزامهم باحترام القوانين والأعراف والتقاليد والمواثيق العراقية، ولكن ماذا لو لم يلتزم هؤلاء، الأمر الذي سيعفيهم من المساءلة أمام المحاكم العراقية، وهذا اخلال أساسي بصيغة المعاهدات المتكافئة.

ولا شك أن عنصر الإكراه واضح، لاسيما ابتزازات وتهديدات الإدارة الأميركية فيما إذا لم توقّع الحكومة العراقية على الاتفاقية، فإنها ستسحب دعمها ومساعداتها، خصوصاً لحماية العراق من التهديدات الخارجية والداخلية، الأمر الذي يدخل في أحد عيوب الرضا والإرادة الحرة بالتوقيع على الاتفاقية ويصنّفها في عداد الاتفاقيات المفروضة والإكراهية.

أما بخصوص حق الدفاع عن النفس، الذي أعطته الاتفاقية للقوات الأميركية فيمكن تبريره بالحرب الوقائية أو الاستباقية، ولعل قصف منطقة البوكمال السورية أخيراً، لم يكن سوى نموذج، إضافة إلى ما قامت به القوات الأميركية في اليمن والباكستان وكلها أدرجتها في إطار الحرب الوقائية لمكافحة الإرهاب الدولي التي قننها مجلس الأمن في إطار ثلاثة قرارات خطيرة هي: القرار 1368 الصادر في 12 سبتمبر 2001 والقرار 1373 الصادر في 28 من الشهر والعام نفسيهما، والقرار 1390 الصادر في 16 يناير 2002، وهي من أخطر القرارات التي صدرت من الأمم المتحدة، أما بشأن المدنيين فإن ما حصل في العراق وأفغانستان كان أقرب إلى العقوبات الجماعية ضد السكان المدنيين، وهو ما يمكن اعتباره جريمة حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ومثل هذه الاتفاقية تعفي هؤلاء من أي مساءلة، لاسيما إذا دخلت ضمن «حق الدفاع عن النفس».

أما الكلام الإنشائي حول أن العمليات تنفّذ تماشياً مع السيادة أو المصلحة الوطنية فهو كلام غير قانوني وغير ملزم، لأن الحكومة العراقية لا يحق لها تقديم أفراد القوات المسلحة الأميركية إلى القضاء في حالة مخالفتها.

وأعطت المادة 12 الحق للولايات المتحدة في إنفاذ القانون على أفراد قواتها وأسمته العنصر المدني بشأن الجنايات الجسيمة والمتعمدة «البيئة، الصحة، السلامة البشرية، المادة الثامنة» ويسلم العراق أفراد القوات والعنصر المدني إلى القوات الأميركية عندما يمارس ولايته القضائية، ويجوز لإحدى السلطتين الطلب من الطرف الآخر التخلي عن حقه الرئيسي في الولاية القضائية لحساب الطرف الآخر، وبالطبع فإن الضعيف سيتخلى للقوي عن ذلك.

وأعطت الاتفاقية الحق لأفراد القوات المسلحة والعنصر المدني في تطبيق الإجراءات القانونية والحمائية المكفولة بموجب الدستور الاميركي والقوانين الأميركية، حتى إذا كانوا تحت الولاية القضائية العراقية.

أجازت الاتفاقية لحكومة العراق (استناداً إلى تقييم الأحوال) الطلب من الولايات المتحدة إبقاء قوات معينة لأغراض التدريب ومساندة قوات الأمن العراقية. وسوف تطبق اتفاقية خاصة يتم التفاوض بشأنها والتوقيع عليها من قبل الطرفين، أو طلب الحكومة العراقية تمديد الفترة المحددة، ومثل هذا الأمر سيكون عامل ابتزاز جديد تفرض من خلالها واشنطن ما تريد في إطار اتفاقية غير متكافئة.

هل سيفي الرئيس أوباما بما قدّمه في برنامجه الانتخابي أم ستبقى الوعود حبراً على ورق، ولعل صخرة الواقع هي التي ستحدد ذلك، حيث إن الاحتلال مهما كان شكله ومضمونه، يبقى احتلالاً سواءً كان عسكرياً أم تعاقدياً؟!

* باحث ومفكر عربي

back to top