الفقر... رذيلة أم فضيلة؟

نشر في 11-08-2008
آخر تحديث 11-08-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

كل ما يقوله الصوفية في فضيلة الفقر وقيمة الفقر ومقام الفقر كان رد فعل على تيار البذخ والترف والغنى، فهو نوع من المقاومة السلبية للغنى، من دون دعوة إيجابية إلى إعادة توزيع الدخل بما يحقق العدالة الاجتماعية في الإسلام.

الفقر قضية رئيسية في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي، وكثير من العرب والمسلمين يعيشون تحت خط الفقر، بل إن الملايين يموتون جوعا في مالي وتشاد والصومال وإريتريا وجنوب السودان. تطعمهم الكنائس والمنظمات العالمية وهيئات الإغاثة الدولية. وفي الوقت نفسه تتراكم الثروات من عوائد النفط، وتتضاعف مرات عدة في السنوات الأخيرة. فأصبح في الأمة أفقر فقراء العالم وأغنى أغنياء العالم في آن واحد. ومن ثم يصعب الحديث عن «العدالة الاجتماعية في الإسلام» أو «الاشتراكية في الإسلام» بالرغم من ذكر عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنص على الاستخلاف بدلا من الاستحواذ، والملكية العامة بديلا عن الملكية الخاصة، والشركة في الماء والكلأ والنار أي الزراعة والصناعة، أهم قطاعين للإنتاج لأن التجارة والسياحة خدمات، والقطاع العام ممثلا في الإقطاع، أي المراعي العامة، ملك الدولة والتي للجميع حق الانتفاع بها، والركاز وهي المعادن في باطن الأرض التي لا يجوز للأفراد امتلاكها، بل تظل ملكا للأمة، لأن الملكية الفردية للمنقول وليس للثابت. فالواقع أبلغ من النص.

وقد تعرض القرآن الكريم لقضية الفقر في اثنتي عشرة آية بخمسة معان:

1- ليس الفقر فضيلة بل رذيلة، وليس قيمة بل حِطّة. مصدرها الشيطان وليس الله. ويؤدي إلى الفحشاء مثل التسول والذل والسرقة والاحتيال من أجل إقامة أود العيش والحفاظ على الحياة، [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ]. ومن ثم كل ما يقوله الصوفية في فضيلة الفقر وقيمة الفقر ومقام الفقر كان رد فعل على تيار البذخ والترف والغنى. فهو نوع من المقاومة السلبية للغنى، من دون دعوة إيجابية الى إعادة توزيع الدخل بما يحقق العدالة الاجتماعية في الإسلام. وفي الأمثال العامية «الفقر حشمة، والعز بهدلة»، في حين يروى عن أحد الخلفاء الراشدين قوله «والله لو كان الفقر رجلا لقتلته».

2- ليس الفقر صفة الله كما تصور اليهود لأن الله غني، [لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]. وهو إسقاط من تصور اليهود لله على أنه لا يعطيهم بما فيه الكفاية. ويرد القرآن على هذا التصور اليهودي لله بأن الله هو الغني وأنهم هم الفقراء ويخاطب الناس جميعا، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]. ويرد الله عن نفسه تهمة الفقر. ويصف نفسه بالغني، وأن البخل والفقر من شيم الإنسان، [مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ]. وأن الإنسان فقير لما نزّل به الله من خير، [فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]. والكل فقير إلى الله.

3- الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، أي المسؤولين عن استثمار أموال اليتامى، وفي الرقاب أي الأسرى، [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا]. الصدقات للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ويجاهدون في سبيله، ويتفرغون لدعوته ولا يأخذون أجرا كالمجاهدين والعلماء. فمداد العلماء مثل دماء الشهداء، [لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وهم المجاهدون. والصدقات للمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ] مثل الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك وطنهم ودورهم وأراضيهم وأموالهم. والعاملين على أموال اليتامى، [فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ]. فالبؤساء والفقراء لهم أيضا حق في أموال اليتامى المستثمرة كما أن لهم حقا في أموال الأغنياء. ومن كان فقيرا من الأوصياء فليأكل بالمعروف من أموال اليتامى، [وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ].

4- الصدقة ليست مِنـّه من الأغنياء، بل هي حق الفقراء في أموال الأغنياء، فالمال مال الله، والإنسان مستخلف فيه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار. وليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز. الله هو الغني. وهو الذي يوزع الرزق على العباد، [إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ]. وتكون سرا من الغني إلى الفقير من دون دعاية أو إعلان، [وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]، وليس عن طريق التبرعات العلنية عن طريق الإعلانات والجوائز وأوراق اليانصيب وكتابة أسماء المتبرعين على الألواح التذكارية.

5- والفقراء والأغنياء عند الله سواء، [إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا]. فالبشر سواء في الخلق. والطبقات الاجتماعية وضع طارئ متغير. الغني اليوم فقير غدا. والفقير اليوم غني غدا. لا تفرق بين البشر الذين يوحدهم الخلق. كرامة الإنسان من حيث هو إنسان في ذاته وليس من حيث غناه أو فقره. حقوق الإنسان حقوق طبيعية قبل وضعه الاجتماعي أو بعده. والمساواة في الحق تجُب الوضع في المجتمع. لا فرق بين سكان القصور وسكان النجوع، بين المدن والقرى، بين أطفال المنازل وأطفال الشوارع.

* كاتب ومفكر مصري

back to top