عن عباس بيضون

نشر في 20-05-2009
آخر تحديث 20-05-2009 | 00:01
 زاهر الغافري لا يكفي أن نقول إن اللبناني، عباس بيضون، شاعر فحسب، على الأرجح أنه شاعر وأكثر، وربما يصح أن نقول إنه رجل مشتغِلٌ على الشعر، لهذا يصعب حصرَه في زاوية واحدة. جلّ اشتغال عباس بيضون الشعري، ينطلق في الأساس، من زوايا نظر عديدة، وأسلوبيات مختلفة، وربما تجريب على مستوى عالٍ من الخبرة، والدراية، والدربة أيضاً. يصح هذا القول ابتداء من «قصيدة صور»، و»الوقت بجرعات كبيرة»، حتى آخر أعماله الشعرية.

وإذا كانت «قصيدة صور»، تصعيداً شعرياً للسيرة الذاتية، سيرة الطفولة والبحر والمدينة، فإن «الوقت بجرعات كبيرة»، فاتحة حذاقة شعرية سوف تنضج في أعماله اللاحقة.

الغريب أن عباس بيضون، القادم أصلاً من خلفية سياسية قومية ويسارية، لم يخلط بين الشعر والسياسة، كما حدث لكثيرين من أقرانه، بل على العكس لقد ابعد المجالين عن بعضهما منذ البداية على نحو حاسم. نقطة أخرى لصالح بيضون أيضاً، هو انه قارئ ذكي للشعر. وهو أكثر شعراء العرب متابعة وعبر الكتابة الصحافية للاجتراحات الشعرية العربية، انه قارئ متأمل بعين ناقدة ويكاد يكون موضوعيا في تناوله للمجموعات الشعرية التي كتب عنها. على أية حال لنترك هذا الأمر جانباً.

في «الوقت بجرعات كبيرة»، هناك قصيدة اسمها «الخادم» وهي منولوج شعري على لسان تلك المرأة التي رفعها عباس بيضون الى مصاف الملكات، والقصيدة لا تخلو من التفاصيل والتمنيات والاسترجاعات والاستدراكات أيضاً، وقد تكون الحسرة من بين ما يُشكل مركزيتها وواضح هنا أن عباس بيضون يفتح أفقاً للنظر كان مهملاً على الدوام.

وبين «الوقت بجرعات كبيرة» وهي المجموعة التي صدرت قبل «قصيدة صور»، مع انها كتبت بعدها ـ وبين أعماله اللاحقة الكثير مما يمكن قوله.

أشار عباس بيضون أكثر من مرة، في أحاديثه الصحافية وفي كتاباته أيضاً الى مصادره الشعرية غير العربية، مركزاً بالأساس على الشاعرين، الفرنسي رينيه شار، واليوناني يانيس ريتسوس. وعنوان «الجسد بلا معلم» كما هو معروف مدين لرينيه شار صاحب «المطرقة بلا معلم»، والكتاب كله، قول في الأشياء الصغيرة، الحميمة، بما في ذلك، ما تبقى من الحب، أو على الأصح من الأنفاس، الذكريات، وما كان مهملاً في العلاقة بما في ذلك الألم أيضاً. لكن كتابة عباس بيضون، تبقى هادئة، تخلو من المبالغات، والصور الصارخة، والمجانية، انها كتابة أشبه بالتطريز الدقيق، لأنه يعرف ماذا يفعل، هناك شيء آخر: إن ما يميز كتابة بيضون، هو أنّ ما لا تقوله القصيدة يبدو، أحياناً أكبر مما تقوله القصيدة فعلياً، انها كتابة تترك حيّزاً عالياً للتأمل، لذا قد لا تكفي قراءة واحدة، وأولية لشعره. في «الجسد بلا معلم» مثلاً، يقوم عباس بيضون بأنسنة الطبيعة ايضاً، مستخدماً وفرة من الكلمات الدالة، لكن بعد قلبها وازاحة ما ثقل عليها من معانٍ صدئة. (المطر، الورقة، الغصن، الوردة، الشوكة، الحديقة، الشجرة)... ألخ، هكذا مثلاً يمكن أن يتحول الجسد الى غصن، و»ما من عبارة غدت فعلاً شيئاً واحداً»، على حد تعبيره. يترك عباس بيضون فراغاً هائلاً لكي يُقرأ ويُفكَر فيه، إنه أفق انتظار حاضر على الدوام. قسم عباس بيضون «المطرقة بلا معلم» الى أقسام ثلاثة: ورقة جميلة يظنونها مية، الجسد بلا معلم ثم الصبر الجنوني. أراد لكل ضمة أزهار أن تكون في مكانها، تنويعات شعرية هي في الأساس قرينة الحب المفقود، والندم، والعجز، ولكن أيضاً، الذكرى والحميمية، والصداقة. والاشتغال الشعري قد يتمظهر في جملة واحدة، وحاسمة، من مثل «لا يكفي أن نزيح الستارة» أو «الحياة كلها تحت النافذة» أو استرسالات تحكي التفاصيل والوقائع بجمالٍ وشفافية.

back to top