قيمة الحرية
إن الإيذاء النفسي والمهني الذي لحق بنا في إحدى الدول العربية من جراء إلغاء بعض أنشطتنا وتشويه عملنا كباحثين مستقلين أعاد إلي الوعي بنعمة الحرية التي عشت وعملت في ظلها في الغرب، وبمدى وطأة غيابها عن بعض أرجاء عالمنا الذي شوهته وأعاقت تطوره عقود طوال من الممارسات القمعية.الحرية قيمة بشرية عليا لا يثمنها إلا من غابت عنه ومنع من ممارستها قولاً وفعلاً، حتى إن كان هذا الغياب أو ذلك المنع محدوداً مساحةً ومؤقتاً زمناً، فاعتياد العيش والعمل في مجتمعات استقرت ديمقراطيتها وتوطنت بها ممارسة الحق في التعبير الحر عن الرأي وفي الحركة غير المقيدة في الفضاء العام يحول الحرية إلى بديهية طبيعية تشكل وجدان المرء منا وكيانه، وتصبغ تصرفاته بصبغتها العفوية الجميلة، والملامسة المباشرة لواقع مجتمعي وسياسي مغاير والاحتكاك به يصيب من اعتاد الحرية بفزع وخوف شديدين يفقدانه من توازنه النفسي والإنساني الشيء الكثير.راودتني هذه الخواطر أثناء زيارة أخيرة لي ولعدد من زملائي العرب العاملين في مؤسسة كارنيغي لدولة عربية شمال إفريقية (ستبقى في هذا المقال غير مسماة) كان الغرض منها إلقاء سلسلة من المحاضرات في شأن تفسير المسار الديمقراطي المتعثر في عالمنا العربي، والمشاركة في نشاطات أكاديمية حول ذات الموضوع.ألقيت محاضرتي الأولى في إطار ورشة عمل نظمتها جامعة حكومية وتناولت بها معوقات التحول نحو الديمقراطية في بعض الحالات العربية دون تعرض لحالة الدولة التي كنا بها، حيث نبهت قبل الزيارة إلى حتمية تجنب الخوض في مجريات الأمور هناك. إلا أن التزامي الصمت هنا وكذلك صمت زملائي الذين حاضروا في الإصلاح الاقتصادي وقضايا العلاقات الإقليمية والدولية قابله وبطلاقة نقدية مبهرة تناول أساتذة الجامعة المضيفة لشؤون دولتهم السياسية والاقتصادية وتشريحهم لأسباب تعثر مسارها الديمقراطي وتداعياته السلبية على المجتمع والمواطنين. ويبدو أن حضور ممثلين للأجهزة الأمنية للورشة- أشار لوجودهم البعض في أحاديث جانبية- لم يحل بين أساتذة الجامعة وبين الطرح الجريء والمباشر على نحو ولّد لدي كضيف انطباعاً إيجابياً بتوافر مساحة حقيقية من حرية التعبير عن الرأي في المجال الأكاديمي. نعم لفت نظري صمت من شارك في الورشة من الطالبات والطلبة، إلا أنني أعزيت ذلك إلى هيمنة كبار السن المعتادة على النقاشات في أغلب الجامعات العربية وإلى الخجل الطبيعي لطلاب في مقتبل العمر.على كل مرت الورشة الأولى بسلام ولم ألحظ من الأمور غير الاعتيادية الكثير، وعقدت في اليوم الثاني ورشة أخرى بتنظيم عدد من منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني تناولت مجموعة من القضايا كان نصيبي منها معالجة وضعية حقوق الإنسان في العالم العربي والعوامل الكامنة وراء استمرار العديد من القيود الواردة على حرية الرأي والتنظيم والنشاط السياسي. مجدداً تجنبت التعرض لحالة الدولة التي كنا بها وركزت مداخلتي على دول أخرى شارحاً الممارسات القمعية للمؤسسات الأمنية، ولتمدد أدوارها لحماية نظم الحكم القائمة في ظل غياب الديمقراطية، وكذلك لضعف المنظمات والحركات التي ترفع لواء الحرية وحقوق الإنسان والانتفاء شبه الكامل لقدرتها في الضغط على النظم لضمان إحداث تغيرات إيجابية. بمجرد انتهائي من الحديث وقبل أن يفتح المجال لحوار مباشر مع الحضور، وأغلبيتهم كانت من نشطاء المجتمع المدني والإعلاميين، نبه منظمو الورشة علناً إلى أهمية تركيز النقاش على الدول العربية التي أشرت إليها في مداخلتي والابتعاد عن تناول حالة دولتهم. وواقع الأمر أن العدد الأكبر من المعقبين قد التزم بهذا التوجيه ولم يخرج عنه من بين 18 طلباً للكلمة ولطرح الأسئلة سوى شخصين أكدا بجمل قصيرة على انطباق التحليل الذي قدمته على دولتهم أيضاً وقوطعا سريعاً من جانب المنظمين... وهنا انقلبت الأمور رأساً على عقب!نبهني أحد المنظمين إلى أن الأمنيين الذين حضروا الورشة قد غادروها في أعقاب النقاش حول مداخلتي، وأن هذا يعني أن تقريرهم عنها يبلغ الآن للمسؤولين وتوقع الرجل صعوبات مشدداً على أن الحرية النسبية المتاحة في الجامعات تغيب كلياً عن نشاط المجتمع المدني. أنهيت أعمال الورشة على عجل وكان عليّ وعلى زملائي التوجه إلى نقابة الصحافيين لحوار ثالث متفق عليه سلفاً حول مستقبل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، إلا أننا فوجئنا بمجموعة من الصحافيين الأعضاء في النقابة يأتون إلى الفندق محل إقامتنا ليبلغونا بإلغاء الحوار بتعليمات السلطات الأمنية، وبأن البعض قد بدأ حملة اتهامات لنا كعملاء للحكومة الأميركية ودعاة لمشروع الشرق الأوسط الكبير ينبغي تجنب لقائهم، واعتذروا برقي مؤثر عما صار إليه الأمر.إزاء تهافت مثل هذه الاتهامات- فكارنيغي مؤسسة بحثية مستقلة لا تتلقى أموالاً من الحكومة الأميركية أو غيرها من الحكومات والباحثين العاملين بها حول القضايا العربية سجلوا كتابةً معارضتهم لإدارة بوش السابقة ومشاريعها في الشرق الأوسط- وأخذاً في الاعتبار أن الدولة التي كنا بها حليفة للولايات المتحدة ولم يسبق لها الاعتراض على سياسات القوة العظمى، أدركنا أننا أمام حملة مدارة أمنياً لتضييق الخناق على حركتنا ومنعنا من الحديث العلني ولترهيب المهتمين من الحوار معنا، وخلال حديثنا مع من حضر من الصحافيين، أبلغت بإلغاء لقاء لي مع واحدة من القنوات التلفزيونية كان سيسجل مساء نفس اليوم دون إبداء أسباب.لم يبق لي وزملائي بعد هذا المنع من النشاط العام وما رتبه من ضيق نفسي وشخصي لدينا جميعاً ومع إلحاح بعض الأصدقاء من أهل البلد في دعوتنا للخروج معهم في جولة ترفيهية سوى الاستجابة للدعوة الكريمة. بيد أن حلقات التضييق الأمني اكتملت بتعقب مباشر لنا من قبل أمنيين تتبعوا السيارة التي كنا بها لساعات ثلاث متواصلة دون كلل أو ملل حتى تأكدوا من عودتنا إلى الفندق.في اليوم الثالث غادرنا الدولة غير المسماة إلى دولة عربية ليست ببعيدة نظامها الحاكم أكثر رحابة صدر بممارسة حرية التعبير عن الرأي والحركة في الفضاء العام، ومنها أكتب عن هذه الخبرة المحدودة والقصيرة في الاحتكاك المباشر بالواقع القاسي للسلطوية العربية دون رتوش. نعم لم يتم التعرض لسلامتي أو لسلامة زملائي الجسدية، وكذلك لم يتم توقيفنا من قبل السلطات الأمنية، إلا أن الإيذاء النفسي والمهني الذي لحق بنا من جراء إلغاء بعض أنشطتنا وتشويه عملنا كباحثين مستقلين أعاد إلي الوعي بنعمة الحرية التي عشت وعملت في ظلها في الغرب، وبمدى وطأة غيابها عن بعض أرجاء عالمنا الذي شوهته وأعاقت تطوره عقود طوال من الممارسات القمعية. نستحق أفضل من هذا!* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي للسلام الدولي- واشنطن