ألمانيا كمان وكمان (1-4): برلين العامرة!

نشر في 09-11-2008
آخر تحديث 09-11-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

يستلفت انتباهك في ألمانيا المستوى الفكري الراقي الذي تدار فيه المناقشات السياسية، فلا مكان هنا للديماغوجية الإعلامية السائدة في الشرق الأوسط، والمشاهد هو الحكم على قدرة السياسيين في اجتذاب أكبر قدر من المؤيدين.

تحلق الطائرة فوق برلين العامرة فيخفق قلبك، مثلما خفق عشرات المرات من قبل، عند رؤية حاضرة الألمان الكبرى التي تحيط بها الغابات والبحيرات من كل الجوانب. تهبط بك الطائرة أخيراً في مطار برلين فتلاحظ فوراً الدقة وحسن الترتيب الألمانيين، وهما ليسا مقتصرين على المطار، بل يمتدان إلى مناحي الحياة الألمانية الصارمة بعض الشيء ولكن المنضبطة والمنظمة والمرتبة في كل الأحوال. تنتهي الإجراءات في أقل من نصف ساعة، فتخرج من المطار إلى الفندق وذكريات سنوات الدراسة تعود إلى مخيلتك وكأن عقارب الساعة قد عادت هي الأخرى خمس عشرة سنة إلى الوراء. تشق السيارة طريقها في هدوء من المطار وحتى الفندق؛ وينتهي المشوار دون أن تسمع صوت أبواق السيارات المميز للكثير من المدن العربية الكبرى. تبلغ مساحة برلين 890 كيلومتراً فقط يسكنها أقل من ثلاثة ملايين ونصف ويبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي لبرلين وحدها أكثر من مئة مليار دولار.

تستمتع بدهشة الألمان المحببة حينما يلاحظونك أنت القادم من الشرق الأوسط ببشرتك الداكنة وملامحك العربية وأنت تتحدث الألمانية الفصحى محيياً أو مستعلماً عن تفاصيل ما. وعلى الرغم من أن ملايين الأجانب يعيشون في ألمانيا خصوصاً من الجالية التركية الكبيرة (يعيش في برلين أجنبي لكل سبعة ألمان)، فإن المجتمع الألماني لا يخفي أنه مازال، بعد عقود طويلة من العيش المشترك مع الأتراك المهاجرين، بحاجة إلى التعلم من حواضر عالمية أخرى أكثر انفتاحاً على ثقافات العالم المختلفة مثل باريس ونيويورك. وبالرغم من ذلك يبدو أن برلين قد تغلبت على آثار التقسيم إلى جزء شرقي وآخر غربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى انتهاء الحرب الباردة التي يؤرخ لنهايتها بسقوط «سور برلين». أصبحت الفوارق في الفخامة والخدمات بين الشطرين الشرقي والغربي تكاد لا ترى، وانتقل وسط المدينة الآن إلى الجزء الشرقي سابقاً والذي شيدت فيه خلال سنوات قليلة ناطحات سحاب ترمز للواقع البرليني والألماني الموحد من جديد.

تعد الدقة والنظافة الألمانية مضرب الأمثال، ولكل شيء في حياتك اليومية في ألمانيا قانون ينظمه، حتى الجسر الصغير في الحديقة العامة علقت عليه لافتة كتب عليها «نظام استعمال الجسر». الهدوء مقدس في ألمانيا وبعد الساعة العاشرة مساء لا يمكنك -بحكم القانون- تشغيل الغسالة الكهربائية لأنها قد تزعج الجيران، أما القمامة فتفرد لها كل بناية ثلاثة صناديق كبيرة تنتصب في الساحة الخلفية: واحدة للقمامة وأخرى للورق والورق المقوى والثالثة للزجاج. بمعنى أن المواطن الألماني الذي يريد التخلص من قمامته سيكون عليه أن يفرز القمامة لكي يسهل نقلها وتدويرها منذ اللحظة الأولى. هذه المرة لاحظت أن الصندوق المخصص للزجاج أصبح مقسوماً إلى نصفين أحدهما للزجاج الأبيض والنصف الباقي للزجاج الملون، أي أن عملية التخلص من القمامة قد أصبحت أكثر تعقيداً وبما يناسب التقدم الصناعي والاستهلاكي في ألمانيا!

تفتح التلفاز الألماني يوم وصولك في موعد النشرة الإخبارية الرئيسية فتجد موضوع الأزمة المالية مسيطراً إلى درجة الاستحواذ على النشرة، مرة من ناحية تأثيراته على الاقتصاد الألماني، وأخرى من جانب تداعياته السلبية على سوق العمل الألمانية، ومرة ثالثة من حيث تأثيراته السياسية على الاتحاد الأوروبي وقدراته التنافسية في مقابل الولايات المتحدة الأميركية. وفي كل مرة تحليل رصين وأرقام وبيانات ورسوم توضيحية.

يستلفت انتباهك مثل كل مرة سابقة المستوى الفكري الراقي الذي تدار فيه المناقشات السياسية في ألمانيا، فلا مكان هنا للديماغوجية الإعلامية السائدة في الشرق الأوسط، والمشاهد هو الحكم على قدرة السياسيين في اجتذاب أكبر قدر من المؤيدين عبر التحليل المتقن والحجج المقنعة والحلول القابلة للتطبيق وليس النيل من أشخاص الخصوم مثلما هي الحال في كثير من المساجلات الفكرية العربية.

تتأكد للمرة الألف أن الصراع الفكري في ألمانيا منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى اللحظة مازال دائراً على ثنائية «الليبرالية الجديدة» في مقابل «الاشتراكية الديمقراطية» ذات الرصيد التاريخي الكبير في أوروبا عموماً وفي ألمانيا خصوصاً.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية  والاستراتيجية - القاهرة.

back to top