حول السلام والديمقراطية
تستحضر أخبار المفاوضات غير المباشرة بين الحكومتين السورية والإسرائيلية مسألة قديمة جديدة في الفكر السياسي والاستراتيجي بشأن علاقة السلام بالديمقراطية. وبما أن هذا السلام قد أصبح مسألة ستة أشهر أو عامين على الأكثر في حال توافرت الشروط الملائمة، فلابد من الخوض قليلاً، ولو في الشواطئ الضحلة للمسألة.تقول نظرية «السلام الديمقراطي»، إن الدول الديمقراطية لا تذهب إلى الحرب، أو إنها نادراً ما تفعل، وهذه الفكرة قديمة جديدة، كان أول من أشار إليها «إيمانويل كانط» في مقالته الشهيرة «السلام الدائم» عام 1795، التي أكد فيها أن أغلبية الشعب لن تصوّت للذهاب إلى الحرب في «جمهورية». وبالجمهوريات كان يعني تلك الدول التي تكون لها حكومة تمثيلية، تنفصل فيها السلطتان التشريعية والتنفيذية. وليس هذا مكتملاً بمقدار مفهوم الديمقراطية الأحدث، حيث حق التصويت العام والتعددية والحريات وتداول السلطة، مع الإشارة إلى أن كانط قد اشترط وجود «عصبة للأمم» تساعد على تطبيق السلام وتراقب شروطه.تطوّرت هذه النظرية تطوّراً مهماً قبيل الحرب العالمية الأولى مع «الولسونية» في الولايات المتحدة، ثم ظهرت شروحات جديدة للمسألة مع الزمن، لكنها بقيت تدور حول ادعاء أن الديمقراطيات لا تذهب إلى الحرب، كما أثبتت أغلبية التجارب. وبقي خلاف بشأن كون الادعاء قاطعاً أم أنه ينطبق عموماً، مع استثناءات قليلة.هنالك إحصائيات محققة من بعض المؤسسات المعنية، تستعرض حروب العصور كلّها، وتفصّل في المقارنة بينها، من وجهة نظر العلاقة بين الحرب أو السلام من جهة، والحرية والديمقراطية أو الاستبداد والطغيان والكبت من جهة أخرى، ترى تلك الدراسات التجريبية أن المسألة تنطبق حديثاً أكثر منها قديماً، وإن كانت معقولة، حتى في الدول والإمبراطوريات الغابرة، التي كانت «ديمقراطيتها» مجتزأة ومحدودة حيث وُجِدت، في المدن الإغريقية على سبيل المثال. وحتى لا يكون هنالك سوء تفاهم مسبق، لا ينطبق الأمر تماماً على الحروب الشعبية التي كانت تجهد من أجل تحرير أرضها من الاستعمار أو الاحتلال، فتلك تتضمن بالأصل مضموناً ديمقراطياً، من حيث تمثّل الشعب وطموحه إلى دولته- الأمة. ذلك مع أن هذه المسألة أيضاً قد شابها ما شابها حديثاً، مع تحول قيادات التحرير في أكثر من مكان إلى طعمة في دولة شمولية أو تسلّطية، وضعفت قليلاً مع تزايد قوة «الحق» الدولية، وأساليب الضغط السلمية، ومع انتشار فكرة الديمقراطية (ضمن الدول وفي ما بينها) وقدراتها الخاصة.لا ينفي أحد من الباحثين إمكان الاستبداد على التعاقد على السلام، لكنه الاستبداد الشرقي الفارسي الثابت، الذي مازال سائداً في نماذج خاصة نادرة، والبعيد في مضمونه عن نماذج أخرى غير ثابتة وتعتمل في داخلها وحولها العواصف والأسئلة. في منطقتنا يتعلّق السلام بإسرائيل، وهي دولة ديمقراطية في الشكل، مدرّعة وعسكرية البنيان، وتعصف بها الإيديولوجيا التوسعية أو المسكونة بهاجس الأمن. إضافة إلى أن ديمقراطيتها تفقد جانباً مهماً من مصداقيتها بسبب التمييز الممارس على الأقلية العربية، وبسبب الظلال الدينية القاتمة التي تتملّك عقول بعض نخبها السياسية والاجتماعية، رغم ذلك كله، وبالارتباط العضوي الخارجي، تبدو إسرائيل طرفاً قابلاً للسلام، في حضور وضمانة «الديمقراطية» الدولية بالطبع.مصر مثلاً كانت طرفاً في اتفاقية سلام مع إسرائيل، لكنها لم تصل إلى السلام بعد، وهم يسمونه السلام البارد، الأقرب إلى الحرب الباردة من بعض زوايا النظر، ومصر ليست ديمقراطية بالمعاني المتعارف عليها، رغم بعض حرياتها المتوافرة.سورية بلد أصغر، محكوم بقانون الطوارئ منذ عام 1963 وباستمرار، كما أن حكومته عجزت عن تلبية متطلبات «الإصلاح» لأسباب مختلفة، تقول إنها تتعلّق بحال التوتر مع الخارج واضطرارها إلى تقديم الأمن الذاتي في قائمة أولوياتها، ولا نقول ذلك، فلطالما سمعناه عبر العقود الماضية، ولم نتوصل إلى أي شاطئ. يحتاج طريق السلام إلى تفويض وإلى غطاء وإلى تصديق، وحتى بغض النظر عن التفويض، منعاً لضياع الوقت وتعويلاً على أن أحداً لا يستطيع التفريط في هذا الباب، حتى ولو كان القصد الفعلي يتعلّق بمصلحة النظام بتدعيم دعائمه، فإن الغطاء ضروري، والتحضير للتصديق أكثر ضرورة. التفويض والغطاء والتصديق هنا بمعنى مشاركة الشعب في القرار بالطرق العصرية، أو بالطرق الديمقراطية.لذلك كله، لابد أن يوجد هنالك مَنْ ينصح النظام السوري بإلغاء حال الطوارئ والإفراج عن السجناء السياسيين، وإطلاق الحريات العامة، ولابد أن تكون هنالك معارضة سياسية، لا يقسر تعريفها على قياسه، بل يتلقفه من الكتب والهواء المعاصر والحاجات الملحة.والأشهر الستة، أو العامان، تاريخ ضيّق ينتظر خلف الباب.* كاتب سوري