الإسلام والتحليل النفسي لفتحي بن سلامة... فرويد العرب
يدخل أستاذ علم النفس العلاجي في جامعة «باريس 7» فتحي بن سلامة الإسلام من بوابة التحليل النفسي. ويشمل كتابه «الإسلام والتحليل النفسي» («دار الساقي»، تعريب رجاء بن سلامة) قراءةً في الأرشيف التوحيدي، وفصلاً كاملاً عن «عيادة ألف ليلة وليلة» ليتوغّل في التدمير الذي تنساق إليه النرجسية الذكورية، باحثاً عن «الأم الأصلية» للجماعة العربية، التي أهملها النص الديني والتاريخ العربي والإسلامي على رغم دورها في البدايات الأولى لظهور العرب وانفصالهم عن المجموعات السامية الأخرى.يرغب بن سلامة في فتوحات سليمة وسلميّة في اللغة والإنسان والنفس وعلم النفس، ويعتبر أن فرضيات التحليل النفسي لا تزال إلى اليوم شبه مجهولة في بلاد المشرق على نطاق واسع. وعلم النفس هو المادة المعرفية الوحيدة التي تكاد لا تجد لها مكاناً في برامج الدراسة داخل جامعات كثيرة في البلدان العربية.
أولاً، لأن علم النفس هو المادة العلمية الوحيدة التي ابتُدعت من طرف شخص بمفرده وهو فرويد، والأخير كان يهودياً، لذلك ينظر المسلمون إلى علم النفس كأحد أشكال الفكر اليهودي. وبسبب النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني ينحو العالم العربي مبدئياً إلى رفض كل ما هو يهودي. ومسلمون كثيرون يرون أن التحليل النفسي ينشر الإلحاد. ثم إن الطريقة التي يُنظر بها إلى الأمراض النفسية في المشرق مختلفة تماماً عن الصورة الشائعة حولها في الغرب. ففي المشرق يسود اعتقاد بأن المريض إنسان قد تلبست روحه الجنّ. لذلك فإنه لا يؤخذ للعلاج عند طبيب نفساني، بل إلى رجل دين ليخلصه من الجنّ بواسطة التعاويذ. خصص فتحي بن سلامة الفصل الأول لأزمة الإسلام المعاصرة، ولمقاربة نشأتها ومظهرها، وقدم تأويلاً لهذه الأزمة مختلفاً عن التأويل السائد عادة في السوسيولوجيا السياسية. كذلك عرّج على رواية الكاتب الهندي سلمان رشدي «آيات شيطانية»، باحثاً عن أسباب جعلت المسلمين يشعرون بهذا القدر من الغضب حيال كتاب كان ذنب مؤلفه أنه مس، من حيث لا يدري ربما، مناطق محرمة في أرضية قام الإسلام عليها، مناطق تختفي منها العصمة المطلقة وتبدأ فيها مخاوف تلبس الشيطان لبوس الملائكة.مصير المرأةمعظم صفحات كتاب بن سلامة مخصص لمسألة مصير المرأة. فالقسم الثاني عنوانه «التطليق الأصلي»، والثالث «مصائر المرأة الأخرى». كذلك تناول الكاتب مسألة الأنثوي في أصل الإسلام، وتبع حلقات تركيبيته الخاصة في لحظة معينة سماها بـ{عيادة ألف ليلة وليلة». فوجئ الكاتب بانقلاب في الكفة في هذا المجال ووجد نفسه إزاء صياغة أولى تأسيسية لإشكالية النرجسية الذكورية ولمحاولة تجاوز مآزقها وعنفها، وهنا برأيه الرهان المركزي لأبنية الثقافة التوحيدية. يندرج الكتاب في خانة دراسات ظهرت تدريجاً، في أعقاب المواقف الفكرية والفلسفية والدينية الناتجة عن هجمات 11 سبتمبر التي دمرت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. يتساءل المؤلف: «ما الذي يريده المسلمون في هذه اللحظة المضطربة من الزمن المعاصر؟». يجيب أن الجماعات الإسلامية قد لا يكون بمقدورها أن تغير شيئاً في هذا العالم ما لم يكن بإمكانها أن تغيّر ما بنفسها، وهذا التغيير يجب أن يأتي من الحاضر لا من الماضي. ويستخدم المؤلف ما يعتبره أزمة كامنة في الإسلام، على مستوى التداعيات في أقل تقدير، لينفذ من خلالها إلى محاولة تبيان أسبابها العميقة، وفق مقاربة تنتهج التحليل النفسي باعتباره أداة فكرية فاعلة لا غنى عنها في استيعاب الوقائع الحضارية. يرى بن سلامة أن العالم الإسلامي يعاني منذ الثمانينات من مرض أحدث رجّة في أسسه وهو الأصولية. هذه الأزمة تنبني على قطيعة بين النمط التقليدي وحداثة لها وقع الكارثة على الناس، الذين لا يملكون أية وسائل تمكنهم من فهم ما يحدث من تغييرات، والتقاليد لا تمنح أي تفسير، ولا تتوافر عناصر تؤدي دور الوسائط التي تقوم بهذا العمل، ذلك أن الحريات الديموقراطية منعدمة في البلدان العربية. المثقفون لا يستطيعون المشاركة، وحرية التعبير مفقودة ولا أحد يستطيع مدّ الجسور. هذه القطيعة تثقل على الإنسان وتستثير لديه مخاوف كبيرة. وبالتالي يلجأ المسلمون مجدداً إلى الأصول الدينية أملاً في إيجاد إجابات على حيرتهم هناك. إلا أن التوجه الديني لا يزيد إلا في تعميق التناقض بينهم وبين العالم الحديث. وهذا المأزق يساعد الأصولية على ممارسة مزيد من التأثير كتعبير عن الأمل في العودة إلى الأصول والفرار من مستلزمات الحداثة.مفهوم «الأزمة»، بحسب الكاتب، غير مناسب لفهم ما تؤدي اليه مقتضيات الواقع الحديث في العالم العربي من تسارع إلى المجهول أو إلى ما لا يمكن التفكير فيه، أو ما تعيشه «الجماهير» باعتباره خرقاً لمنظومة أفكار ومفاهيم انتشرت في الإسلام منذ زمن طويل. يرى الباحث، في هذه القضية، شوقاً ينتمي أولاً إلى نخبة لم تتوصل بعد إلى ترجمة الحداثة إلى العامة من الناس، ولم تقدم على استخدام الإمكانات التأويلية والسياسية بما يتناسب مع سلطاتهم المفرطة. على هذا الاساس، يؤكد الكاتب أن الحداثة، بأشكالها المتداولة، لم تكن إلا «تمثيلية» فاشلو عمّا يعتبر حديثاً في هذا السياق. علوم معاصرةيجتهد بن سلامة في إقحام الإسلام في مجرى العلوم الإنسانية المعاصرة التي تنطوي، في طبيعتها على مناهج في البحث والتحليل قد تتباين مع مثيلتها التي نقع عليها في السياق الإسلامي. وهذا من طبائع الأمور، نظراً الى ما يتميز به الإسلام من تصور كوني للوقائع القائمة في العالم. أما العلوم الحديثة، فتأخذ بمنهج المراقبة والتحليل ومن ثم التوصل الى الاستنتاج الملائم. ورغم ذلك، يخوض الكاتب هذه التجربة الصعبة المحفوفة بشتى أنواع المخاطر الثقافية والأيديولوجية والدينية أيضاً. إذ يعتبر أن من شأن هذه الدراسة ذات المنهج العلمي أن تطرح تساؤلات مشروعة حول الكيفية التي ينظر بها الى الإسلام راهناً ودور التحليل النفسي، كعلم قائم بذاته، في مقاربة هذه النظرة ومحاولة الإجابة، قدر المستطاع، عن عدد من التساؤلات الملحة.ينتج الباحث خطاباً عن الإسلام مختلفاً عن ذلك الخاص بالذين يضعون أنفسهم في مكان «الملأ الأعلى»، وينظرون بنظرته، ومختلف أيضاً عن خطاب الاستشراق والأسلامولوجيا والسوسيولوجيا السياسة. يدخل بن سلامة الإسلام من بوابة التحليل النفسي، لطرح أسئلة حول الإسلام وحول التحليل النفسي ويخاطب المسلمين وغير المسلمين لأن الإسلام ليس قضية المسلمين فحسب، بل هو المعرفة الكونية بالخاص وعبر العام.الأرشيف والذاكرةيشير الباحث الى أن دراسته هذه ليست تحليلاً نفسياً للإسلام، ولا تحليلاً نفسياً لشخصية المسلم، بل قراءة متأنية علمية وموضوعية في الذاكرة الإسلامية وأرشيفها الغني الذي تحوّل مادة لغوية ذات بنية متماسكة، بعد حدوثه وتدوينه، تمارس تأثيراً ثقافياً واجتماعياً ودينياً مباشراً على المسلمين، وستبقى كذلك. على هذا الأساس يتأمل المؤلف، أرخبيل الذاكرة والأرشيف الثقافي الذي ما برح الإسلام يستقي منه منظومة واسعة من مفاهيمه المرجعية. يدعو بن سلامة الى الغوص في ذلك المحيط المترامي الأطراف من «اللاشعور» الذي ينبثق من هذا الأرشيف، باعتبار أن كل ما يتحوّل الى لغة مكتوبة، في نهاية المطاف، يصبح مدعاة للايحاء، وإعادة لتشكيل المفاهيم والتصورات التي تأخذ بالانفصال، تدريجاً، عن حقائقها الأصلية الأولى، كلما تقادم عليها الزمن. والأرشيف هو النص المرتبط بالأمر والبدء والسلطة، والأثر الذي تحيط به حراسة دائمة، وهو من هذه الزاوية مختلف عن الذاكرة، لأن الأخيرة لا توجد إلا انطلاقاً من الحاضر.والذاكرة تفترض النسيان، بينما يروم الأرشيف امتلاك آثار ما وقع، ويدعي الاحتفاظ بها، وإن كان هو نفسه كتابة تشتغل ضد نفسها لأنها تدحض الطريقة التي تأسست بها والمكبوت الذي أقامت صرحها عليه، وإن كان هو نفسه «أدباً» أي أنه تاريخ بحسب الشهادة والذكرى وليس تاريخاً بحسب الوثيقة المادية الأكيلوجية. قراءة كتاب فتحي بن سلامة، توحي أن الباحث التونسي، سيحقق نجاحاً مهماً في مشروعه الذي يمكن اختصاره بأنه طرح أسئلة الإنسان الحديثة المدعمة بتقنيات ومنهجيات التحليل النفسي، خصوصاً مدرسة فرويد ولاكان، على الإسلام كدين، في الدرجة الأولى وعلى المسلمين الذين حوّل بعضهم الدين الى أيديولوجيا، وعلى ظروف فرضت على الإسلام والمسلمين سلوك هذا الطريق دون غيره.