البيئة والمحيط: طبقات ومراتب

نشر في 21-03-2009
آخر تحديث 21-03-2009 | 00:00
 بلال خبيز يرى فلاسفة البيئة أن المحافظة على محيطنا الذي نعيش فيه اليوم، هو شأن من شؤون البشر. وأن ترك الأمور على غاربها قد يؤدي إلى خراب الكرة الأرضية واستحالة العيش فيها. وهذه تحذيرات وإنذارات غير طويلة الأمد، بل إن عقوداً قليلة فقط من النشاط البشري من دون روادع بيئية قد يؤدي إلى انهيار الأرض تماماً. لكن ما يطمح فلاسفة البيئة لتنظيمه وحمايته ليس غابات الأمازون العذراء بطبيعة الحال، ولا قيعان المحيطات العميقة، بل غاباتنا المدجنة وحدائقنا المنزلية وحيواناتنا الأليفة في المحميات الطبيعية وحدائق الحيوان وفي المختبرات والمنازل على حد سواء. وإذ يحذر هؤلاء مراراً وتكراراً من امتداد النشاط البشري إلى المناطق التي لاتزال عذراء، وعلى طبيعتها، فإن المطلوب تنظيمه بالضبط هو ميدان العيش البشري لا غير. على هذا، لن يعترض البيئيون على تشجير صحراء قاحلة بدعوى الحفاظ على البيئة الطبيعية للصحراء، لكنهم حتماً سيعترضون على تصحير غابة مطرية.

استناداً إلى هذه الحماسة المنقطعة النظير تصبح الحيوانات جميعاً والغابات والتربة والمياه كائنات هشة ينبغي أن نصنع لها أدوات تحفظها من الفساد. يستوي في ذلك غابات الأخشاب في هولندا والسويد وطيور البطريق في آلاسكا. وفي خضم هذه الحماسة الهائلة لا تكف فلسفة البيئة عن التوثيق والأرشفة والتصوير. والحق أن الكائنات غير المصورة، أو تلك المناطق العذراء التي لما تكتشفها كاميرات التصوير بعد، لا تلقى اهتماماً يذكر بما يجري فيها، فلو أن أسداً أسترالياً، أو ما يشبهه يعيش في غابات الأمازون، ويملك من القوة والشراهة ما كان سلفه الأسترالي يملكه، لاستطاع أن يهدد كائنات تلك الغابات جميعاً على نحو فادح، من دون أن يتسنى للبشر الدفاع عن التنوع الإيكولوجي في تلك الغابات.

والأمر نفسه يمكن افتراضه في ما يخص المدن الكبرى اليوم، فماذا يحصل لو أن سلالة من الجرذان المتوحشة استطاعت أن تقضي على كل ما عداها من كائنات في قيعان المدن الحديثة، واستبد بها الجوع والحاجة لتهاجم الكائنات الأقرب إليها؟

- الصورة المعمرة والعيش المتلف ينتج عن هذه الاستعصاءات وقائع مذهلة. كما لو أن النشاط البشري اليوم في بعض وجوهه، يتلخص في تصوير الفانين وحفظ صورهم، أو في حالات بالغة التنوع والتناسل جعل الفانين من الكائنات والأماكن صوراً حية تقوم مقام الصور وتعيش عيشتها، فالصور تصمد في مواجهة عوامل الطبيعة القاسية لأن نظام الحفظ الذي يؤمِّن لها أكثر فعالية من نظام الحفظ الذي يؤمِّن لأشجار الغابات أو سكان الجزر الاستوائية. ومن نافل القول إن لوحة «غيرنيكا» عاشت بعد موت راسمها، وأن صورة المايا الممددة على الأريكة في لوحة غويا لاتزال حية في حين أن المرأة نفسها التي كانت من لحم ودم قد بليت عظامها تحت التراب.

بل إن هوس الحداثات بأدوات الحفظ بلغ حداً جعل من الجسم البشري نفسه طامحاً للعيش عيشة الصورة نفسها. فعارضات الأزياء ونجوم السينما ذكوراً وإناثاً يعيشون في ظل ظروف مكيفة تماماً كما لو أنهم يعيشون في مختبر طبي. لا يتعرضون للشمس والريح إلا بحساب، ولا يشربون ماء لم تدمغه شركة «نستله» بدمغتها مهما كلف الأمر، وينامون بحساب دقيق ويأكلون بحساب دقيق ويمارسون كل نشاطاتهم بحساب دقيق وبارد لا يمت لحرارة العيش بأي صلة. فئران تجارب تعيش في مختبرات طبية معقمة، بخلاف البشر العاديين الذين يعيشون في ظروف قابلة للعطب ومتغيرة على الدوام.

لا يكف هؤلاء النجوم عن تغذية هوسهم بإطالة سن الشباب إلى أبعد حد ممكن. كما لو أنهم في هذا الهوس يريدون أن يعيشوا أطول وقت ممكن بوصفهم صوراً قابلة للحفظ. فنعومي كامبل المرأة اليوم، هي المعادل الحقيقي للوحة الموناليزا وليس للمرأة المرسومة في اللوحة. وعليها لتحافظ على صحتها أن تمتنع عن كل ما يؤثر على جمالها وتناسقها. والمؤثرات مثلما نعرف ليست سوى العيش نفسه في معظم الأحيان. وعلى نحو ما تكون غابات هولندا المنسقة بعناية شديدة مثالنا على صحة النظام البيئي المنشود، ويكون براد بيت مثالنا على صحة الجسم البشري المرغوب بشدة. لكننا في هذا كله نستبدل الحياة بصورها ونجعل الصورة الهشة أطول عمراً من الجسم الحي. وفي أحسن الأحوال وبالنظر إلى نزوات النجوم الذين يعيشون عيشة الصور، يمكن القول إن هؤلاء لا يغادرون العيش في الصورة إلا إلى طفولة مستعادة، تحتاج ما تحتاجه من رعاية وتمتاز بما تمتاز به من هشاشة مفرطة لا يمكن معها تعريضها للعيش الحقيقي والصلب، وجُل ما تستطيعه لا يتعدى محاكاة العيش على نحو ما يكون الزواج وبناء العائلة بالنسبة للأطفال لعبة «بيت بيوت»، ويكون بناء الجسور بالنسبة لهم لعبة «ليغو» معقدة قليلاً.

* كاتب لبناني

back to top