المدينة في قصائد الشعراء...
أنوثة اللفظ وحنين المكان!

نشر في 01-04-2009
آخر تحديث 01-04-2009 | 00:01
 آدم يوسف ترتبط المدينة ارتباطاً مباشراً بالمنفى ما يجعل شعراءها خاضعين للظرف السياسي والاقتصادي في أوطانهم، وتظل صدمة الانتقال من مدينة صغيرة إلى أخرى حداثية مزدهرة، تشقها ناطحات السحاب ملازمة لشعراء عرب كثيرين قادتهم الحياة إلى الهجرة والتغرّب.

تشكل المدينة صدمة أولى انطلقت منها القصيدة الجديدة، يظهر ذلك من خلال قصائد صلاح عبد الصبور التي تصوّر جفاء المدينة والفقر الروحي الذي يشكو منه الإنسان المعاصر، وقصائد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي التي شكلت تحولاً كبيراً في ذهنية رجل الريف البسيط، الذي تحوّل إلى إنسان يواجه المدينة بزخمها وتنوع الحياة فيها، وغلظة إنسانها الذي يلهث وراء الماديات، يظهر ذلك جلياً في ديوان «مدينة بلا قلب» الذي يعتبره الدارسون إحدى النقاط الهامة في تحوّل القصيدة العربية نحو شعرية المدينة، بكل ما تحمل من خصائص ومميزات.

يقول عبد المعطي حجازي:

هذا أنا

وهذه مدينتي

عند انتصاف الليل

رحابة الميدان

والجدران تلٌ

تبين ثم تختفي وراء تل

وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم ضاعت في الدروب

ظل يذوب

يمتد ظل

لا يخفي حجازي صدمته الكبرى بالمدينة، حيث معترك الحياة والعلاقات القائمة على الصراع لأجل المادة، ويبدي حنيناً كبيراً إلى قريته وناسها البسطاء الطيبين يقول:

وجاء مساء

وكنت على الطريق الملتوي أمشي

وقريتنا بحضن المغرب الشفقي

رؤى أفق

مخادع ثرة التلوين والنقش

تنام على مشارفها ظلال نخيل

ومئذنة... تلوي ظلها في صفحة الترعة

ورؤى مسحورة تمشي.

شعريّة المدينة

يرى د. إبراهيم رماني أن شعرية المدينة امتداد لشعرية المكان، «هذا المكان الذي يشكله الخيال، ويبنيه في اللغة على نحو يتجاوز حدود الواقع الفعلي، ولا نعثر على شعرية المكان إلا لدى الشعراء الذين يتخذون المكان تجربة كيانية شاملة، ويحولون موضوعه إلى قضية كليّة، ويشكلون منه صورة، ورمزاً، وإيقاعاً، أي بنية تجسد رؤية عميقة إلى العالم، وموقفاً صميمياً من التاريخ».

تُعتبر المدينة عنصراً محفزاً لمخيلة الشعراء، فلكل شاعر مدينته التي يركن إليها، ولكل شاعر نساؤه المنبعثات من رحم المدينة، ولعل سمة التأنيث المشتركة بين المرأة والمدينة تتيح للشعراء فسحة من الاستخدام المجازي القائم على التشبيه، والمقارنة، وكذلك الإسقاط والانطلاق في فضاء التداعي والتخيلات اللانهائية.

يذكر شعراء كثر المدينة التي عاشوا فيها أو مروا بها في أشعارهم، وثمة مدن مفترضة تأتي من واقع الخيال، وثمة المدينة/ القضية، كما هي الحال مع القدس بالنسبة إلى الشاعر محمود درويش.

يوضح د. عادل الأسطة أن أكثر المدن التي ذكرها درويش في أشعاره أو خصص لها مساحة من شعره هي مدن زارها وكانت له علاقة مباشرة بها، لكن هذا لا يعني أن ثمة مدناً كتب عنها من خلال قراءته عنها، وهذه هي المدن التاريخية التي لم يعد لها وجود على أرض الواقع. وأشار د. الأسطة أن المدن التي تظل خالدة في الذاكرة بعد قراءة أشعار درويش هي القدس، غزة، بيروت، ودمشق.

يقول درويش متطرقاً إلى مدينته الأثيرة القدس:

وما القدس والمدن الضائعة سوى ناقة تمتطيها البداوة

إلى السلطة الجائعة

وما القدس والمدن الضائعة

سوى منبر للخطابة

ومستودع للكآبة

وما القدس إلا زجاجة خمر وصندوق تبغ...

ولكنها وطني.

سعدي يوسف

تنقّل سعدي يوسف بين بلدان عربية وأجنبية كثيرة، وجاء شعره تصويراً لهذا الترحال، وهواجسه الكثيرة المتداخلة، ومن دواوينه في هذا المجال ديوان «قصائد نيويوك»، الذي يلامس من خلاله واقع هذه المدينة، ومدن أخرى مشابهة لها، يقول:

قد تبدو كلُّ المُدُنِ،

الصبحَ ، جميلةْ

ذاتَ شوارعَ لامعةٍ

ومتاجرَ لم تَفتَحْ أبوابَ مصائدِها بَعدُ

ومقاهٍ قد فُتِحَتْ للتوّ

وسيّاراتٍ ماثلةٍ ، كتماثيلَ من الـمعدِنِ في قاعةِ عَرضٍ ...

قد تبدو كلُ الـمدنِ ، الصبحَ ، جميلةْ

حتى لَكأنَّ التاريخَ يغادرُها عند الفجرِ

لكي تأتينا

بيضاءَ

مُباغِــتَــةً

خارجةً من أسوارِ محارتِها

خارجةً عمّا اعتدنا أن نكتبهُ...

هل تبدو نيويورك كذلك؟

قد تبدو ...

لكنّ هديرَ الطيَرانِ الحربيّ

يخطفُ لحظةَ غفْلتِنا

وبراءتِنا

ويقولُ مديداً: لـ - ا- ا -ا- ا- ا - لا !

يذكر الشعراء مدينة نيويورك مرتبطة ببعدها السياسي، فهي رمز الرأسمالية، وإحدى علامات القوة العظيمة في العالم، وكان سعدي أحد الرافضين للغزو الأميركي لبلاده، على رغم أنه عاش حياته كلها منفياً، ولم يكن على توافق مع السلطة الحاكمة في بغداد حتى قبل الاحتلال الأميركي. إذن ليست نيويورك تلك المدينة الحالمة الوادعة التي يصوّر الشعراء مظهرها الخارجي، وحدائقها الغناء، بل هي المدينة/ الحرب، وهي المدينة/ الرمز، وهي الاقتصاد الجامح وسطوة رأس المال.

الكويت والخليج

تتأثر القصيدة في الكويت والخليج العربي بعنصرين هامين: المدينة والصحراء. وذلك يعود إلى طفرة عمرانية اكتستها هذه المنطقة بعد اكتشاف البترول، ومع ذلك يحنّ الشعراء دائماً إلى الصحراء، فهي الموروث المختزل في ذواتهم. وتطغى هذه الثنائية (المدينة – الصحراء) بشكل لافت على قصائدهم، لا سيما أولئك الذين ينتهجون نهجاً يميل إلى سرد التفاصيل اليومية. ولو توقفنا عند عناوين بعض الدواوين نجد فيها هذا الانشغال وهذه الصدمة الضدية (زخم المدينة - رحابة الصحراء). ومن بينها:

- «من يأمن اليابسة»: طالب المعمري/ عمان.

- «رجل من الربع الخالي»: سيف الرحبي/ عمان.

- «نقف ملطخين بصحراء»: حمد الفقي/ السعودية.

- «صحراء في السلال»: إبراهيم الملا/ الإمارات.

ويحمل كثر من شعراء الخليج في ذواتهم المدن التي يزورونها في مشارق الأرض ومغاربها، وقلما نجد شاعراً يزور بيروت أو القاهرة، وطنجة إلا ذكرها في شعره. يقول الشاعر الكويتي إبراهيم الخالدي:

صه

يافؤادي أي جديد تراه؟

وحيداً كما أنت دوماً

خليل المساء

تسافر دون حقائب

تغفو على مقعد في القطار

وترحل...منذ سنين

وأنت تغادر صدر صديق

وتقذف همك في صدر آخر

ماذا تغير؟

ماذا اعتراك؟

وحيداً بقيت: ظننت المساء ...نساء

ظننت الطريق...صديقاً

سيولد حين تريد

تُرى...هل علمت

بأن المحيط تسيد عرش البحار ونام

تزنر بالشمس خصر المدينة فجراً

وطاف شوارع طنجة قومك

أهل زناتة ...صنهاجة...وهلال

فهب الخزامى وهب الثمام.

back to top