المياه السرية 1

نشر في 11-03-2009
آخر تحديث 11-03-2009 | 00:01
 زاهر الغافري في صيف عام 1904 وفي مدينة بادن فيلر نطق أنطوان بابلوفيتش تيشخوف بهذه العبارة Ichsterbr الألمانية، ومعناها: «إنني أموت». كان تيشخوف في الأربعينيات من عمره. في تشييع جنازته سار نفر قليل من أصدقائه ومحبيه، من بينهم الكاتب الروسي مكسيم غوركي، لاحظ غوركي أن جنازة أخرى تُشيع في نفس الساعة، وخلفها تسير أعداد غفيرة من البشر، وعندما تساءل عنها قيل له، إنها جنازة جنرال روسي، امتعض غوركي وتألم لهذه المصادفة القدرية فاعتصره الحزن مضاعفا. سينتظر مكسيم غوركي حتى عام 1936 ليودع العالم هو الآخر، بسبب نفس مرض تيشخوف اللعين: داء السل والاكتئاب.

لكن لنعد إلى الوراء قليلاً، إلى ربيع عام 1897، حيث سيولد مسرح موسكو الفني الشعبي، بمبادرة أصدقاء من بينهم تيشخوف، ستانسلافسكي، ودانتشنكو. هذا المسرح هو الذي سيقدم، بإرادة صلبة ووفاء نادر، الأعمال المسرحية العظيمة لتيشخوف، وفي ما بعد بسنوات كثيرة بعد وفاة تيشخوف سيكتب المنظّر والمخرج المسرحي العظيم ستانسلافسكي ما يلي: «إن مؤلفات أولئك الذين يشكلون علامات الطريق مثل تيشخوف سوف تتخطى الأجيال وليست الأجيال هي التي ستتخطاها».

لكن لنعد إلى غوركي وتيشخوف، من بين المراسلات الفاتنة التي قرأتها، تبرز على وجه الخصوص تلك التي جمعت بين هذين الكاتبين الكبيرين، (ظهرت لأول مرة بالعربية عام 1953 بترجمة جلال فاروق الشريف)، وبعيداً عن كون هذه المراسلات تحمل قيمة تاريخية واجتماعية، لحقبة القياصرة الروس ولكتّاب ومثقفي تلك الحقبة (تمتد هذه المراسلات من عام 1898 حتى 1903 أي قبيل وفاة تيشخوف بسنة واحدة) بعيداً عن هذا، تسطع تلك الاسلوبية الصريحة في الكتابة عن الذات وعن هواجس وأفكار وتململ مشترك بين الكاتبين. بدأت هذه المكاتبات حينما كان مكسيم غوركي في بداياته الادبية، بينما كان تيشخوف قد قفز قفزته الكبرى بأعماله التي خلدته سواء كانت في القصة او المسرح، منها: طائر النورس، الخال فانيا، الشقيقات الثلاث... الخ، كان غوركي أشبه بالتلميذ بالنسبة الى تيشخوف ويكن له احتراماً وتقديراً عاليين، هو الذي كان حديث العهد بالكتابة كما ذكرنا.

يكتب غوركي أولى رسائله عام 1898 «بصريح العبارة أود ان أعرب لك عن المحبة الحارة، الصريحة التي اغذوها لك في نفسي منذ الطفولة... كم من لحظات رائعة عشتها في كتبك، وكم أهرقت فوقها من دموع، كنت أغدو كالذئب المسعور الذي أطبق عليه الفخ، ثم لا ألبث أن أضحك طويلاً وقد غمرني الأسى»، لكن علاقة غوركي بتيشخوف ستتحول فيما بعد، سواء عبر المراسلة أو اللقاءات التي ستجمعهما، إلى نوع من الندّية والأخوّة الابداعية دون ان تفتقر بالطبع إلى الاحترام والنبل عند كليهما. سأفتح هنا قوساً كبيراً للقول إن مراسلات تيشخوف - غوركي هذه تكشف عن ضحالة وضيق أفق المقاربة - خصوصاً لأعمال غوركي - في الأدبيات اليسارية العربية في الخمسينيات والستينيات حتى مطلع السبعينيات من القرن الفائت، إذ اعتبرت أعماله على الدوام، أعمالاً «نضالية» بحصر الكلمة، وكأنما كان غوركي الناطق الرسمي بلسان حزب يقود الجماهير إلى الخلاص، والحال أن الصورة ليست هكذا بالمرة، أو على الأقل لم تكن بهذه الفجاجة التي قدمت الينا. كان غوركي كما تظهر رسائله، يكن احتقاراً واضحاً للسطحية والمباشرة في الأدب والفن عموماً، والجدانوفية، بواقعيتها الاشتراكية التي هللت لها الأنتلجنسيا العربية زمناً باعتبارها وصفة جاهزة من أدب الاتحاد السوفييتي آنذاك، حتى أن بعض هذه النخب نسيت «غيمة في بنطلون» لـ مايا كوفسكي مكتفية بالوصفة الجاهزة، إياها، من دون أن تتساءل أبداً، لمَ انتحر الرجل؟

صحيح أن غوركي لمن عرف سيرته الحياتية، سُجن واضطر الى الإقامة الاجبارية ونفي إلى أمكنة عدة في روسيا الشاسعة، لكنه لم يذهب إلى اعتبار الأدب وصفة جاهزة تقدم للجماهير. ولنا وقفة أخرى مع هذه المراسلات.

back to top