دراسة نقدية للخطاب الإسلاموي المتشدد الإبحار في عالم التطرف والغلو وإشكالياته... وقراءة متأنية لضرورات تجديد الخطاب الديني (2-4)

نشر في 22-07-2008
آخر تحديث 22-07-2008 | 00:00
No Image Caption
تعتبر قضية التجديد الديني مسألة مطروحة منذ عقود بعيدة، خصوصاً من قبل رواد مدرسة الإصلاح الديني التي تبناها إسلاميون عقلانيون مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم، والتي تمثلت جهودهم في القرون الحديثة في محاولات عقلنة الفكر الديني، من خلال الدعوة للاختلاف وعدم التقيد بمذهب واحد. فاتخذ دعاة التجديد مسلكاً إصلاحياً يدعو إلى فتح باب الاجتهاد لتتيسر لهم قراءة النصوص الدينية قراءة جديدة تتواكب مع تحديات العصر وتوائم طبيعته من خلال دمج التفكير العقلاني في الثقافة الاسلامية التقليدية. لقد كان لهؤلاء المجددين دورهم الفعال في عقلنة الخطاب الديني، واليوم باتت الضرورة أكثر إلحاحاً لمثل هذا النوع من الإصلاح، انطلاقاً من كونه المفصل الأساسي الذي يفصل العالمين العربي والإسلامي عن العالم المتقدم. «ليس هناك خطاب ديني جديد من دون إصلاح سياسي شامل» حسبما جاء في دراسة بعنوان: «إعلان باريس حول سبل تجديد الخطاب الديني» أعدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في أغسطس 2003.

وركز الجزء الأول منها على محاولة تحليل وتفكيك ثلاث إشكاليات مهمة يتمحور حولها الخطاب الديني المتشدد في المنطقة الإسلاموية بشكل عام والكويت بشكل خاص، والإشكاليات هي: 1) التفسير الملتبس لمبدأ الحاكمية، 2) مشروع الدولة الإسلاموية، 3) التوظيف السياسي لمفهوم الجهاد.

وسعت الدراسة بعدها إلى تسليط الضوء على الاختلالات وأوجه الخلل في الخطاب السياسي الديني في الكويت الذي دفع إلى تنامي ظاهرة التطرف، من خلال إجراء مراجعة للمفاهيم الأساسية للخطاب المتشدد، وفي مقدمتها شعار الحاكمية لله. بينما تستكمل الدراسة في جزئها الثاني تناولها لأوجه تلك الاختلالات من خلال استعراض مفاهيم شعار الدولة الإسلامية، وذهنية التطرف في المنظور الجهادي.

ب - شعار الدولة الإسلامية

نستنتج هنا في ضوء ما سلف ذكره وتبيانه أن شعار الحاكمية الذي رفعه دعاة المغالاة أتى ليؤكد ويصب في غاية جوهرية هي قيام «الدولة الإسلامية»، أو كما يسميها بعضهم «دولة الخلافة». وعندما ندقق في مفهوم الدولة الإسلامية نجده من المفاهيم التي دارت حدتها، وتسببت في الكثير من التنازعات والصراعات في التاريخ الإسلامي، فهو كغيره من المفاهيم التي ابتدعها وصنعها البشر تبعا لأيديولوجية معينة، تتبناها وتسعى إليها فئة معينة لتجعل الناس يؤمنون بها من خلال النهج التلقيني، أو الترغيبي، أو الترهيبي، أو أحيانا أخرى من خلال التصفية الجسدية. وهو النهج الذي اتبعه أصحاب هذه الأيديولوجية المتشددة مع فرج فودة وحسين مروة ومهدي عامل وغيرهم الكثير. سنحاول هنا تناول الطابع الأيديولوجي لمفهوم «الدولة الإسلامية»، وبحث تساؤل جوهري له علاقة بصلب الموضوع وهو: هل يمكن لدولة المسلمين أن تكون دولة مدنية علمانية؟

إن مفهوم الدولة هو مفهوم من صنع الإنسان، تمت صياغته بالشكل الحديث الراهن بفعل مساهمات متراكمة من المفكرين والسياسيين والفلاسفة عبر أجيال متتالية من التاريخ، حتى يصبح للمجتمعات البشرية نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي ومدني، ينظم حياتهم ويوفر لهم مستوى معيشياً راقياً، ومن هنا تأسس هذا المفهوم على شكل قانون يصادق عليه الشعب، فيتم تثبيت مفهوم الدولة من خلال فصل السلطات ووجود مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية، وهو ما ذهب إليه الكاتب محمد الحنفي في دراسته المنشورة في يناير 2005 بمجلة حوار العرب تحت عنوانل «دولة المسلمين لا إسلامية الدولة».

تداخل الدين والسياسة

على الصعيد الإسلامي، لا يوجد أي نص ديني يتعرض لمفهوم الدولة باستثناء الآية الكريمة العامة: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى:38). وهنا ينبغي تأكيد أن النصوص الدينية لم تعطِ شرحاً مفصلاً ودقيقاً ووافياً لشكل الدولة وطبيعتها. وليس هناك نصوص تحدد كيفية اختيار الحاكم ولا الشروط أو الخصائص التي يجب أن يمتلكها، ولا غير ذلك من الأمور التفصيلية. والذين يصلون إلى السلطة من بعض رجال الدين يوظفون ويستخدمون أيديولوجيتهم غالباً من أجل إحكام سيطرتهم وتثبيت مكتسباتهم، حيث إن الدولة هي مجرد جهاز يستخدمه مَن يصل إلى السلطة لحماية مصالحه سواء كان مسلماً أو غير مسلم، اشتراكياً أو رأسمالياً، لذلك فإن استخدام النصوص الدينية وإقحامها في السياسة ما هو إلا وسيلة من وسائل التغيير والمخاتلة في اللعبة السياسية، من أجل احتكار السلطة وتحويل الدولة برمتها إلى دولة «ثيوقراطية» يمسك بزمامها وقمة الهرم فيها رجل دين كهنوتي.

وما يجب إزاحة الستار عنه من حقائق مهمة، أنه لا وساطة في الإسلام بين الله عز وجلّ وعباده، فالدين الإسلامي في روحه ودعواته يسعى إلى تكريس الكرامة الإنسانية من خلال الدعوة إلى مشاركة الناس في تقرير مصيرهم، أما الدولة التي يريد المتشددون تطبيقها على أرض الواقع فهي دولة خاصة لفئة من الوسطاء بين الله عز وجل والناس، تحتكر تفسير النص الديني الإسلامي، وتجعل تفسيراتها الخاصة به مقدسة وبمنزلة القرآن نفسه «لايأخذه الباطل من خلفه ولا من بين يديه»، على حد تعبير الكاتب محمد الحنفي في الدراسة المشار إليها سلفاً. وهذا ما نهى عنه القرآن الكريم في الآيات [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ] (البقرة- 165)، [وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ] (آل عمران- 64).

الازدواجية الصارخة

وينبغي في الواقع الاقتناع بمسلمة بديهية، وهي أن المسلمين لا يختلفون عن بقية البشر فهم ليسوا معصومين من الخطأ. وإذا ما كانوا كذلك، فإن دولتهم قد تكون أيضاً كبقية دول العالم المصنفة: إما استبدادية وإما ديمقراطية وإما علمانية استبدادية وإما علمانية ديمقراطية. لا تكون هناك ديمقراطية في دولة توظف الأيديولوجية الدينية باعتبارها مصدراً للاحتكار والاستبداد بالرأي، فالديمقراطية يحكمها دستور تكون فيه السيادة للشعب.

أما ما يحدث على أرض الواقع اليوم فهو أن دول المسلمين؛ إما تحكمها سلطة من دون دستور مكتوب، تهيمن عليها سلطات دينية تعتمد اعتماداً كلياً على تفسيراتها الدينية الخاصة، والتي تفرض رأيها ولا تقبل بغيره من الآراء، وإما دول لديها دستور شكلي يستخدم لتكريس الاستبداد وقمع الحريات. بينما أساس مبدأ الدستورية على العكس من ذلك تماماً، وهو تعزيز الحريات الفردية والجماعية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا... هل يمكن أن تكون دولة المسلمين دولة علمانية؟ إن مفهوم العلمانية جرى تشويهه وتحريفه من قبل التيارات والمؤسسات الإسلامية المسيسة بطريقة تختزل المفهوم العلماني في جزئية واحدة هي «فصل الدين عن الدولة»، مما يعني في النهاية تجريم الآخر عبر إلباسه تهمة إنكار الدين والإلحاد والكفر، وذلك لتعزيز سلطتها ومكانتها في الدولة. ولكن المفاهيم السياسية التي عززتها العلمانية الديمقراطية هي كثيرة ومنها؛ مبدأ الفصل بين السلطات، وسيادة الأمة، والدستورية والديمقراطية، وتكريس دولة القانون، وفصل القضاء الشرعي عن القضاء المدني، والفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني، ومن ثم تعميق مفهوم المواطنة ليعيش أفراد المجتمع المدني كلهم في الدولة بغض النظر عن دياناتهم وأعراقهم.

في الواقع تعيش هذه المؤسسات الدينية حالة ازدواجية صارخة، فعلى الرغم من قبولها لمضمون العلمانية من خلال الممارسات اليومية للحياة المدنية، فهي ترفض لفظها رفضاً قاطعاً، وتنعت العلمانيين بالملحدين. فهي إذ تقبل وتمارس الديمقراطية انتخاباً وتصويتاً وتحزباً، تدعي أنها ترفض مفاهيم العلمانية، وهي هنا تقع في تناقض واضح وجلي، حيث إن تثبيت المفاهيم الديمقراطية الدستورية لا يتأتى إلا من خلال مفاهيم العلمانية التي تقبل الأديان جميعها وليس دينا بعينه، وتقبل وتتعايش مع الفئات والألوان السياسية جميعها، وليس التيارات الدينية السياسية فقط، وتتسامح مع الآراء والتوجهات كافة وليس آراء الإسلامويين فحسب.

العلمانية والكفر

كما أن العلمانية تنسق الممارسة السياسية في الدولة وتنظمها، وهي الممارسة التي تدير مصالح وتوجهات البشر من طبقية اجتماعية وجماعات ضغط وأحزاب وتكتلات سياسية، والتي تعد أداة مهمة لحركة المجتمعات وتطورها، ولكن من خلال السبل الديمقراطية السلمية، حيث لا فرق بين هذا الدين وذاك إلا بمقدار ما يقدمه من حلول وبرامج تنموية وتطويرية وعملية للاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة. وتدفع العلمانية الدستورية إلى تكريس دولة القانون التي يتمتع مواطنوها جميعهم من مسلمين وغير مسلمين بالحقوق كلها من غير تمييز بينهم مهما كانت مناصبهم.

مسألة اتهام مفاهيم العلمانية والمنادين بها بالزندقة والكفر والإلحاد من قبل بعض الإسلامويين تكشف مدى «دوغمائيتهم» وأيديولوجيتهم المتأصلة في ثقافتهم التي يرومون فرضها على الناس، كما أنها تعبر عن خوفهم من العلم ومحاربتهم له حتى لا يستخدم الناس عقولهم التي تتمكن حينئذ من القضاء على هذه الأيديولوجية المتعصبة كونها تحيد عن العقلانية والعملية في تفسير النصوص الدينية.

فالعلمانية هي ممارسة موضوعية علمية محايدة لا تنحاز إلى دين أو طائفة بعينها، كما أنها تضمن الحريات. فهي تكرس مقولة الرسول عليه الصلاة والسلام «أنتم أعلم بأمور دنياكم». فهي لا يمكن أن تكون ضد دين معين أو معه، وفي الحين نفسه يستطيع المسلم وغير المسلم أن يكون علمانياً، لذلك لا نستطيع اعتبار العلمانية كفراً. في الغرب حرية المعتقد من عبادة وتعليم ديني موجودة، ولكنها لا ترعى دينا دون غيره، بل تتعامل الدولة مع الأديان كافة على قدم المساواة والتوازن.

مشاريع الخلافة

لعل الشعارات التي يتبناها الإسلامويون بأن «الإسلام هو الحل» أتت بعد فشل المشروع القومي العربي «العلماني» الذي سيطرت عليه فئات سلطوية قهرية انعزلت عن الفئات الشعبية، وكما ذكرنا سالفاً فإن هناك علمانية دستورية وعلمانية استبدادية. فشلت هذه الأنظمة في تحديث دولها وتطويرها. وأصبح الإسلامويون يبررون فشل هذا المشروع بأنه سبب «للانحلال الديني» وربطته بالانحلال السياسي، وفق ما رأى د. أحمد الموصللي في مقال «التجديد والتحديات المعاصرة في العالم الإسلامي المنشور في مجلة حوار العرب في يناير 2005. فالرد هنا بأن الحل لا يكون إلا بالرجوع إلى الدين «الصحيح». فالعلمانية القومية السلطوية هي عامل من العوامل التي أدت إلى صعود الإسلام السياسي وتجيير هذا الفشل لمصلحتهم من خلال هذا الشعار الذي لا يتضمن أي برنامج عملي واقعي لماهية الدولة الاسلامية. فهو شعار يملؤه الغموض والتضليل، فماذا يقصد بالدولة الإسلامية: هل هي الحكومة الإسلامية؟ أم هي دولة المسلمين؟ أم هي حكومة من المسلمين؟ أم هي حكومة رجال الدين؟ هل هي حكومية سنية أم شيعية؟ هل هي سلفية أم إخوانية؟ أي مثال نتبع من التاريخ الإسلامي؟ الخلافة الراشدة؟ أي خلافة؟ خلافة أبيبكر أم عمر أم عثمان أم علي؟ أم نتبع الخلافات التي توارثت عبر الأجيال وكرست ممارسات مستبدة تحتكر الحكم وتقرب الوعاظ والمشايخ الذين يعطونهم شرعية الحكم؟ هل هي امتداد للتجارب المعاصرة التي نشهدها كالتجربة الإيرانية أو الأفغانية أو السودانية أو السعودية؟ والكثير الكثير من الأسئلة.

ما نريد تأكيده أن الإسلام لم يحدد أي شكل لحكومة أو لنظام، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أراد للناس أن يكون لهم إرادة وعقل. فالعلمانية الدستورية تعمل على احتواء الأطياف والألوان السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعها لتتعايش وتتقبل الآخر وتتحاور سلمياً من خلال قنواتها الدستورية، لا أن يفرض معتنقو دين بعينه رأيهم ووصايتهم على البشر جميعاً.

قد تكون دولة المسلمين علمانية وقد لا تكون كذلك. أما إذا سيطرت على الدولة مفاهيم «ولاية الفقيه» أو «الخلافة الإسلامية» أو غيرها من المفاهيم الدينية تصبح دولة «ثيوقراطية» تتناقض وتتعارض تماماً مع الديمقراطية. اما إذا كانت ديمقراطية فهي بالضرورة علمانية، وهو ما يتفق عليه الكاتب محمد الحنفي في مقاله «دولة المسلمين لا إسلامية الدولة»، الذي سلفت الإشارة إليه.

ج- ذهنية التطرف في المنظور الجهادي

لا يختلف الجهاد السياسي عن الجهاد المسلح كثيراً، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، تتأصل فيهما ذهنية العنف. هذا يرهب الآخر بفكره وذاك يرهب بسلاحه، وبين الاثنين هناك علاقة جدلية يؤدي فيها الجهاد السياسي على الأغلب إلى الجهاد المسلح إذا لم يتحقق مبتغاه. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن مصطلح الجهاد السياسي يكتنفه الكثير من التناقضات والالتباسات، حيث إن كلمة جهاد بالمعطى الديني دائماً ما تكون ضد عدو أو «كافر»، بينما يعتبر مصطلح سياسة مصطلحا مدني المفاهيم والمضامين، فهو مرتبط بالإدارة وطريقة الحكم. وهو ما ذهب إليه د. أحمد البغدادي في كتابه «الجهاد السياسي والخواء الحضاري... تجديد الفكر الديني، دعوة لاستخدام العقل» الصادر عام 1999.

فهل من الممكن إدارة المجتمعات من خلال القتال والعنف، خصوصاً أن ذهنية الجهاد والقتال تقف في موقف الخصومة والعداء من الحياة المدنية ودولة القانون والمؤسسات. لذلك، فإن دمج العمل الجهادي بالعمل السياسي لا يستند إلى واقع عملي. فمنظومة التبريرات الخاصة بالجهاد التي يستخدمها الإسلامويون في خطابهم ومسالكهم لا تتناسب وعصرنا الحالي الذي يختلف اختلافاً جذرياً عن طبيعة وظروف الحقب الأولى للإسلام وطبيعة التفاعلات السياسية والدينية لذلك الزمن.

إن مبتغى أنصار عقيدة الجهاد السياسي هو تحقيق وتأسيس الدولة الاسلامية القائمة على أنقاض الدولة «الجاهلية»، من وجهة نظرهم. فهم جماعات دينية سياسية حزبية، وبالتالي فإن أهدافهم دينية سياسية. والدولة الإسلامية هي الهدف الأساسي لتيارات الإسلام السياسي. ومثلما هو معروف، فإن استناد أولئك الأنصار إلى أيديولوجية عقائدية، وغالباً ما يرفضون التحاور مع أولئك الذين يختلفون معهم من الفرقاء السياسيين في الدولة المدنية كما يرفضون التعاطي معهم كطرف سياسي يوازيهم في الحقوق والواجبات من خلال القنوات الديمقراطية بقدر إيمانهم بالجهاد من أجل تحقيق هدفهم الديني ومحاربة أعدائهم ممَن يختلفون معهم بالوسائل كلها.

أنموذج «جبهة الإنقاد»

ويكمن هدف هذه الجماعات المستقبلي من خلال الدخول في الانتخابات البرلمانية والقنوات الديمقراطية في استخدام الأدوات الديمقراطية من أجل القفز على ركائز الدولة المدنية وتفريغ الدستور من مضمونه لاستبداله بقوانين إسلامية تفرض مجتمعاً إسلامياً، ثم إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية على طريقتهم الخاصة. وعندها لن يبقى من الدولة الدستورية شيء، وذلك للتعارض الواضح بين الدولة الدستورية والدولة الدينية. وهذا ما يفسر بشكل جلي النهج التكفيري الذي تتبعه غالباً الجماعات الدينية المتشددة في وصف أولئك الرافضين للدولة الإسلامية، وتشويه صورتهم بنعوت مثل الملحدين والكفار وغيرها من الصفات.

في الكويت نجد هناك مطالبات كثيرة من قبل التيار السلفي لتغيير المادة الثانية، وفي إلحاحهم على إقامة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكفير مَن يؤمن بالدستور من خلال استخدامهم المتطرف للآيات القرآنية مثل [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] (المائدة:44)، ونعتهم باللادينيين، لذا فإن «الجهاد السياسي» الذي يتبناه كثير من الجماعات المتطرفة ما هو إلا إرهاب فكري لاسكات المخالفين لها وتجريمهم.

أما على المستوى الخارجي، فهم يؤيدون علانية الجهاد المسلح، مثلما هو معروف بأنموذج «جبهة الإنقاذ» في الجزائر، الذي نجم عنه النزاع المسلح الطويل بين الجبهة والسلطة الجزائرية الذي كان ضحيته الآلاف من الأبرياء، وهو ما تطرق إليه الدكتور البغدادي في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه. ويصور بعضهم أن «الجماعات اللادينية» جميعها لا تريد الإسلام، وهي بالتالي في «حالة جاهلية» يستوجب جهادها ولو سياسياً. لم تستطع هذه الجماعات أن تتحاور بطريقة حضارية مع الأطراف المختلفة معهم من المسلمين داخل مجتمعاتهم، والتي دعا إليه الله عز وجل في القرآن الكريم [ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل:125). إن تلك الدعوة لا تتم إلا من خلال ثقافة واعية متسامحة.

محاكم تفتيش فكرية

ذلك البعد العقائدي المليء بالاندفاع والانفعال في عقيدة الجهاد أدى إلى اتخاذ الجماعات الإسلامية في بعض الدول العربية سبل العنف المسلح من دون وعي بمدى وَهَن قدراتها، وقوة قدرات الدولة مما أدى في النهاية إلى انتصار الدولة على تلك الجماعات، وبالتالي وجهت تلك الجماعات جهودها نحو المجتمع للتحول إلى توجهات إرهابية من خلال توفير مبالغ ضخمة من الأموال لتعزيز دور الجماعات الإسلامية العنيفة. تأثرت الجماعات الدينية في منطقة الخليج بتلك الجماعات وموّلتها بالمال، الأمر الذي أدى إلى اتهامها بتفجير تلك الظاهرة، مما دعا إلى تنكرها لتلك التهمة واتجاهها إلى «الجهاد السياسي» بشكل سري.

تكمن المعضلة الرئيسية في تفسيرات مفهوم الجهاد السياسي ما تتضمنه من عقلية العنف والتطرف، وليس بالضرورة أن يكون العنف بصورته المجردة كالاغتيال أو التفجير، بل يأتي على أشكال مختلفة أبرزها إلغاؤهم وإقصاؤهم للآخر المختلف مع رأيهم في الدين. إن أصحاب الدعوة إلى الجهاد السياسي لا يؤمنون بالمجتمع المدني الذي يقوم على المفاهيم الليبرالية. ذلك أن المجتمع المدني يؤمن بتعايش الأديان كلها على حد المساواة تحت مظلة الدولة في حين أن أنصار الدولة الاسلامية لا يعترفون إلا بدين واحد، بل بمذهب واحد، هو الذي يسود في الدولة، ومن الصعوبة بمكان تحقيق هذا النوع من الدول في عالم تتعايش فيه الإثنيات جميعها تحت مظلة قانون مدني واحد، وهذا يقودنا إلى طرح الكثير من التساؤلات عن أحوال الأقليات الإسلامية في بلدان مسيحية؟ فإذا ما كانت المعاملة بالمثل، فإن العالم سيغدو ساحة صراعات ونزاعات أهلية لا تُحمد عقباها. لذلك، فإن مَن يؤمن بفكرة العمل السياسي ينبغي عليه أن يقبل المجتمع المدني بما يتضمنه كله من أحزاب وتيارات وتوجهات، حتى وإن اختلفت مع مفاهيمه الدينية، باعتبار تلك المؤسسات تستحق الاحترام والتعامل الإيجابي لا الاستهانة والرفض. فالحرية الشخصية وحرية التعبير والبحث العلمي لا تقبل التقيد بمفاهيمهم، وذلك لأن الحريات لا تتجزأ. فهل يعقل أن يكون هناك مجتمع مدني توجد فيه محاكم تفتيش فكرية؟ وهل من المنطق أن تُمنع الكتب الدينية، بدلاً من السماح بها ومناقشتها والرد عليها؟، وهو تساؤل كان الدكتور البغدادي قد طرحه في كتابه.

الكويت حالة!

تتمسك الجماعات الدينية بآرائها على اعتبار أنها مسلمات ومفاهيم صحيحة وثابتة، فهي تزعم أنها وحدها تملك ما هو أصلح من المفاهيم، ومن ثم تعمل لإخضاع المجتمع لمفاهيمها الخاصة. وحتى يتسنى للطرف الآخر العمل مع الجماعات الدينية من دون خوف أو ترهيب من تكفير ولادينية، ينبغي على تلك الجماعات التخلي عن مصطلحات الجهاد والعنف في عملها السياسي، لأنه يصور المسلمين على أنهم متعطشون للدماء والحروب والقتل، مثلما هو حادث حالياً في بغداد وكابول والعديد من البلدان، ولن يتأتى ذلك حتى تؤمن بحرية الإنسان وحقوقه، وأن الوطن للجميع لا لفئة معينة. وأن كونهم يتحدثون باسم الإسلام، حسب وجهة نظرهم، لا يجعلهم أفضل من الآخرين، وعليهم أن يعوا قول الله سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام [لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ] (سورة الغاشية: 22)،

«لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ» (الأنعام:66)، و[وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا] (سورة يونس: 99).

ومن هنا، فالضرورة تدعو إلى القيام بالإصلاح الشامل للخطاب المتشدد الذي يؤدي لا محالة إلى دخول الدولة والمجتمع في دوامة التطرف والعنف. وهي مطالبة بمراجعة الخطاب الديني الذي يعد أحد الأمور الأساسية الذي يتشكل منها الوعي المجتمعي، والتحلي بثقافة الديمقراطية في أبعادها السياسية والفكرية والسلوكية والاجتماعية كافة. ويقصد بالخطاب الديني كل ما يصدر عن المؤسسات والهيئات الشرعية والدينية والأفراد من فتاوى وتوجيهات وبرامج تثقيفية دينية. ويشمل أيضاً كل ما تقدمه دور التربية والتعليم من مناهج وأنشطة صيفية وندوات ولقاءات. إن الذين نريد التدقيق على خطابهم الديني المتطرف هم العاملون في مجال الفكر الإسلامي والعمل الاسلامي، والذين يرون بطريقة أحادية إلغائية محتكرة تطبيق الشريعة الإسلامية وأسلمة القوانين في الكويت، من دون التفاتة إلى أن الكويت دولة مدنية يحكمها عقد اجتماعي اتفق عليه الكويتيون قاطبة، وهو الدستور الكويتي الذي يحمي الحقوق ويحفظ الحريات من دون تمييز لعرق أو مذهب أو عقيدة.

back to top