الانهيار يطاول طموحات أميركا ووقائعنا

نشر في 05-11-2008
آخر تحديث 05-11-2008 | 00:00
 بلال خبيز أميركا تعاني أزمة اقتصادية، وهي أيضاً متورطة في حربين لا يبدو أن ثمة نهاية قريبة لهما. النتيجة المنطقية التي يخلص إليها كثيرون، وبعضهم له باع طويل في الأفكار والفلسفة: حتمية انهيار الإمبراطورية الأميركية. ويذهب أكثرهم تفاؤلاً بمستقبل الأمة الأميركية على غرار المفكر الأميركي إيمانويل فالرشتاين، إلى تأكيد حتمية النهاية، لكنه يضيف وليس ثمة من يخلفها.

هذا في الظواهر. لكن الظواهر لا تمنع اقتراح أسئلة محددة، فربما بتحديد الأسئلة نستطيع أن نخلص إلى إجابات دقيقة، ومعرفة ما نريد التدليل عليه. قد يكون السؤال الأكثر بداهة هو التالي: لنسلم جدلاً أن الإمبراطورية الأميركية مقبلة على انهيار شامل، هل يعني هذا أنها ستصبح دولة أضعف من إيران أو سورية أو سويسرا؟ الأرجح أن أحداً ممن يملك الحصافة ويتمسك بأهداب المنطق لن يجيب عن مثل هذا السؤال بالإيجاب. فالانهيار الذي يجري الحديث عنه، هو انهيار الطموحات، وليس انهيار الوقائع. فأميركا الوقائع بثرواتها الداخلية، البشرية والجغرافية والثقافية والعسكرية والنووية طبعاً، دولة لا يمكن قياس أهميتها بأهمية سويسرا أو ألبانيا أو السنغال. تبقى دولة كبرى، لكن احتمال الانهيار يتمثل في انهيار سعيها إلى التحكم المباشر بالعالم كله على نحو ما ظهرت عليه إدراة بوش الأولى بعد عمليات 11 سبتمبر. لكن مثل هذا السعي نحو الانكفاء إلى الداخل الأميركي، مثلما هو معلوم، كان يحتل المتن في خطاب جورج بوش أثناء حملته الانتخابية الأولى في مواجهة نائب الرئيس كلينتون آل غور. وهو سعي لم ينفك مقرراً في السياسة الأميركية منذ أن نشرت أساطيلها التجارية في بحار العالم في منتصف القرن الثامن عشر.

في هذه الحال ما الذي يمكن أن ينجم عن التخلي الأميركي عن التدخل في العالم بسبب انشغال أميركا بشؤونها الداخلية؟ هل ثمة ما يبدل في موازين القوى الحالية بين الدول الصغيرة، وفي منطقتنا العربية خصوصاً؟ الجواب البديهي أن ليس ثمة ما يمكن عمله في هذه الحال لتغيير موازين القوى، ذلك أن انكفاء أميركا إلى قارتها لن يعني أن مصانع أسلحتها ستتوقف عن البيع، وأن رأيها العام سيكف عن دعم إسرائيل، وأن مختبراتها ستتوقف عن تطوير الصواريخ. إلا إذا كان أحد يظن أن الدول على غرار أميركا تنهار دفعة واحدة ولا يتبقى منها غير غبارها، تماماً كمباني القاهرة المغشوشة في الثمانينيات.

سؤال أخير، لئلا نطيل الإقامة في العبث اللفظي: هل يفترض المبشرون بانهيار الإمبراطورية الأميركية أن هجرة معاكسة ستحصل من أرض الأحلام إلى أراضي المنشأ والمصب. فتعود أميركا مثلما اكتشفت يوم ألقى على شواطئها كريستوف كولمبس أول مرساة مهاجرين؟ أم أنه ولأجل غير مسمى وغير معلوم، مازالت الهجرات تتم نحو أميركا من أنحاء العالم وليس العكس. والحق أن هذه الهجرات في العقود الأخيرة باتت هجرات منتقاة، أي أن الدول الصغيرة تعلّم أبناءها وتصنع منهم علماء ومهندسين، لكنهم لا يستطيعون إيجاد عمل مكافئ لخبراتهم إلا في مصانع كرايزلر وجامعات أميركا، مما يعني أن الهجرات التي تتوجه نحو أميركا من أنحاء العالم كله هي هجرات منتخبة ونخبوية، وأن أميركا تستقبل مقدمي العالم وأذكياءه وعلماءه حين لا تعود بلادهم تتسع لهم، والأرجح أن الهجرة المعاكسة لا مكان لها ولا مستقر من الآن حتى وقت غير معلوم.

لكن ما يجدر بنا أن نسجله للمبشرين بنهاية أميركا يتلخص بالأمل، فمازال في بعض العالم من يأمل في تغير الأحوال، لكن الآمال، منذ عقود في عالمنا العربي، ترسو على خيبات ومرارات، حتى انتصاراتنا حملت معها خيبات ومرارات أكثر مما حملت بشائر وآمالاً. مقاوماتنا التي يتبجح البعض بإنجازاتها ليل نهار، لم تحمل أكثر من الخيبات والمرارات، وما إن تحقق نصرها حتى تبدو زائدة خطيرة ينبغي استئصالها من جذورها.

اليوم ثمة إجماع وطني ودولي وعربي في العراق على ضرورة هزيمة الإرهاب، هذا الإرهاب الذي نشأ بوصفه مقاومة للاحتلال، ودافع عنه كثيرون ممن يبشرون بهزيمة أميركا اليوم، وإذا ما نجح العراق في سعيه هذا، فقد يتحرر من الاحتلال الأميركي ويبدأ رحلته من صفر الاستقرار إلى إيجابيات الازدهار.

وثمة في لبنان حديث مماثل، لقد أخرجنا إسرائيل المحتلة من البلاد، فما الذي سنفعله بمقاومة مسلحة، شاءت أم أبت ستبقى خارجة على منطق الشرعية والدولة؟ وكذا الحال في فلسطين. وحيث إن الصراع الذي يخاض ضد أميركا يتخذ هذا المنحى الانتحاري، سيبقى هازمو أميركا والمتصدون لهيمنتها هم أكثر من يشكلون خطراً على استقرار بلادهم وازدهارها.

* كاتب لبناني

back to top