الكويت من الدولة إلى الإمارة - الدكتور أحمد الخطيب يتذكر - الجزء الثاني (13)

نشر في 15-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 15-09-2008 | 00:00
طرحت في الاجتماع ألا يعود الشيخ سعد رئيساً للوزراء وأن البلد يكفيه ما حدث له نتيجة لإدارته فلقي ذلك صدى إيجابياً
إهداء إلى شابات وشبّان الكويت الذين يعملون على إعادة الكويت إلى دورها الريادي في المنطقة.

إلى أولئك الذين يسعون إلى بناء مجتمع ينعم فيه المواطن بالحرية والمساواة تحت سقف قانون واحد يسري على الجميع، ويكون هدفه إطلاق إبداعات أبنائه وليس تقييدها باسم المحافظة على عادات وتقاليد هي جاهلية في طبيعتها ولا تمتّ بصلة إلى الدين ولا إلى ما جبلت عليه الكويت منذ نشأتها من تعلّق بالمشاركة في السلطة، ثم الالتزام بدستور 62 الذي قنن هذه الطبيعة الكويتية.

إلى الشابات والشبّان الذين يحلمون بمستقبل مشرق للكويت يعيد دورها الرائد في محيطها، كي تنضم إلى عالم العلم والمعرفة الذي أخذ ينطلق بسرعة هائلة لا مكان فيه للمتخلّفين.

إلى هؤلاء جميعاً أهدي هذا الكتاب.

مجلس 1992

كنت أخبرت المقربين إليّ عام 1985 أنه ستكون هذه آخر مرة أخوض فيها الانتخابات لأرتاح من تعب الانتخابات والمجلس بسبب تقدم السن لفسح المجال أمام الكفاءات الشابة لتتحمل المسؤولية. وكنت صادقاً في وعدي.

العمل النيابي أثّر على عملي كطبيب. العيادة لا بدّ أن تعمل لكي أقابل مرضاي، وأنا لم أترك العيادة يوماً إن لم يكن صباحاً ومساء فعلى الأقل أكون موجوداً في المساء. لكن أحمد السعدون سامحه الله لم يترك لنا وقتاً لمزاولة المهنة. فهو كان حريصاً على إنهاء إعداد جميع الميزانيات قبل خروج الناس في إجازة الصيف، ولذلك كنت مضطراً إلى مواصلة العمل في المجلس من الصباح حتى المساء. ثم أمرّ على العيادة أقضي مع المرضى فترة لا تقل عن ساعتين وأعود إلى البيت منهكاً. والأدهى والأمرّ أننا لم نحظَ بإجازة الصيف طوال الفصل التشريعي الذي امتدّ لأربع سنوات كاملة، وأحمد السعدون يريد أن يكون المجلس حاضراً لمراقبة الحكومة.

لكن ما حصل من أحداث كبرى: حلّ المجلس وإلغاء الدستور والمواجهات التي حصلت ثم احتلال الكويت وتحميل النظام المسؤولية عمّا حصل للشعب الكويتي! والحملة الظالمة التي تعرضت لها أنا أثناء الاحتلال وبعده لم تكن مقبولة عندي إطلاقاً، فهم أرادوا أن يخفوا خطيئتهم الكبرى في ضياع الكويت بالشكل المخزي الذي حصل فيتهموا الآخرين. لهذه الأسباب كان لا بدّ من الردّ على كل هذه الأكاذيب الرخيصة.

اتصلت بالأخ محمد الصقر رئيس تحرير القبس حينئذ، وقلت له إني أريد أن أرد على الاتهامات التي وجهت إليّ، ولما أعطيته فكرة عن المواضيع التي سوف أثيرها قال إن وضع الصحيفة لا يسمح له بذلك، وتفهمت المشاكل التي يعانيها من بعض ملاك الصحيفة.

عندئذ فكرت أن أدعو الى اجتماع جماهيري في إحدى جمعيات النفع العام لأقول كل شيء، ووجدت أن قانون التجمعات لا يسمح بذلك. لهذه الأسباب وجدت أنه لا مفرّ من ترشيح نفسي للانتخابات حتى أتمكن من قول كل شيء. وقد كانت تتجاذبني رغبة الترشّح لقول ما أريد قوله، ولا أعرف إلى أي مدى صدّق الناس تلك الأكاذيب والاتهامات التي وجّهت إليّ، ورغبة الالتزام بقراري عدم الترشّح للانتخابات وترك المجال لغيري.

الندوة الانتخابية الأولى بمناسبة افتتاح مقري الانتخابي في الروضة كانت موفقة حضرها نحو 1500 شخص. وكان رد الفعل والتجاوب رائعاً مما أوحى بأن الندوة التالية ستكون أكثر جماهيرية، فالناس كانوا متعطّشين لمعرفة ماذا حصل ولماذا. ولابد إذن من وضع مكبرات صوت في الشوارع المجاورة حتى يسمع الجميع وإلا سيكون هناك تزاحم شديد يفسد الندوة، لكنني ترددت في عرض هذه المخاوف على اللجنة الانتخابية حتى لا أتهم بالمبالغة أو الغرور.

كم كنت سعيداً تلك الأمسية عندما ذهبت مبكراً إلى مقرّ الندوة الثانية، ورأيت مكبرات الصوت منتشرة في الشوارع المجاورة. وعلمت أن الصديق العزيز أبو بدر -عبدالوهاب البناي- قد أحضرها على مسؤوليته ونفقته الخاصة لأنه كان يحمل الانطباع نفسه، وفاجأ بها الجميع.

حصل ما توقعته، فقد اكتظت منطقة الروضة بأعداد من الناس أكثر من كل التوقعات، جماهير وصلت من كل مناطق الكويت وفاضت حتى الطرق السريعة المجاورة وعطّلت السير فيها وأصبح الدخول إلى المنطقة أو الخروج منها متعذّراً.

الصحافيون الأجانب صعدوا إلى السطح المجاور ليشاهدوا هذه الجموع وكم كانت دهشتهم من المشهد، وقد عبّروا عن ذلك. وقدّروا العدد بـ14500 حسب طريقتهم بتقسيم الحشود إلى مربعات ومعرفة عدد الموجودين في المربع. كنت ولله الحمد موفقاً بشكل جيد في تلك الندوة وأنا بطبيعتي أنطلق أكثر كلما كان الحضور أكبر.

رجعت إلى البيت وقلت لزوجتي إنني حققت ما أريد وعرضت وجهة نظري وأبرزت كل الحقائق وتجاوب الناس معي بشكل ممتاز. لذلك سوف أعلن انسحابي من المعركة الانتخابية. في اليوم التالي أخبرت المقربين بقراري وذكّرتهم بأنني كنت قد قلت لهم في انتخابات عام 1985 إنها ستكون الأخيرة لي.

هذا الكلام سبب صدمة شديدة عند الأصدقاء والشباب الذين عملوا معي ليل نهار والذين اعتبروا أن الروضة هي المنطقة الأهم انتخابياً وفيها التحدي الأكبر للعمل الوطني، وأن سقوطي أنا بالذات هو هزيمة للخط الوطني وأنهم تركوا مناطقهم ومرشحيهم وجاءوا لخوض هذه المعركة. وانسحابي سيشكل خيبة أمل لهم مما سيؤثر في سير المعركة الانتخابية برمّتها. لقد مارس هؤلاء الشباب والأصدقاء والناس الطيّبون ضغطاً عليّ جعلني أعدل عن الانسحاب. وقلت أواصل المعركة ولكن أتجنب الندوات الكبيرة لأن الأخيرة سببت إزعاجاً لأهل المنطقة إذ منعتهم من الحركة. فالداخل لا يستطيع الخروج والخارج لا يستطيع الدخول.

هذا الوضع المستجد سبب إرباكاً للنظام الذي كان متأكداً من فشلي في الانتخابات. وأذكر أن الصحافي المصري يوسف إبراهيم، وهو مراسل جريدة نيويورك تايمز الأميركية، قد زارني في البيت بحكم الصداقة التي بيننا وقال لي: «دكتور سوف تسقط في الانتخابات وتأتي إما السادس أو السابع»، وهو يعكس انطباعاته من المسؤولين الذين زارهم.

هنا اشتدت الحملة ضدي وزوّروا الكثير من الأحداث مدّعين أنني كنت ضد تحرير الكويت. وقد رأت اللجنة الانتخابية أن أقيم ندوة ثالثة للرد على هذه الاتهامات، وكان أكثر ما ركّزوا عليه لاتهامي شريط عن ندوة أقيمت في لندن من قبل مؤسسة باندونق الإعلامية، وهي مؤسسة يسارية تم فيها استعراض المخاطر التي سوف يتعرض لها الكويتيون في الداخل إذا نفذت الخطة المعروفة حينئذ والتي تقول إن الهجوم سيبدأ بدخول الكويت وسوف تكون خسائر الجيش الأميركي عشرة آلاف جندي قتيل وأضعافهم من الجرحى، أما الكويتيون الصامدون الذين لا يملكون وسائل للحماية حتى الكمامات التي تحمي من الغازات السامة، فسيكون مصيرهم الهلاك. مقابل ذلك كان بعض المسؤولين من الصباح يقولون للعالم: أعطونا الكويت أرضاً وعندنا المال لبناء الكويت من جديد غير عابئين بمصير الكويتيين الصامدين. هذه الخطة تم تبديلها في آخر الأيام حماية لأرواح الأميركيين! وأعطيت الفرقة الأجنبية الفرنسية السريعة الحركة مهمة تطويق الجيش العراقي الموجود في الكويت كما ذكر الصحافي وودورث في كتابه عن أسرار الحرب.

المهم أن هذا الشريط تمّ تحريفه وترجمته إلى العربية وتوزيعه على كل بيت في الروضة. في هذه الأثناء نقل إليّ أحد الأصدقاء من المنطقة رغبة ابنه في أن يستضيفني في ديوانيته لندوة خاصة فقبلت العرض، وقلت هذه مناسبة لكي أرد على هذا الاتهام. ووجدت من المناسب أن تسجل الندوة وتوزّع بدل أن تقام ندوة ثالثة تزعج سكان المنطقة. وفعلاً ذهبت إلى هذه الديوانية وفوجئت بأن ابن هذا الصديق من الأخوان المسلمين والحضور جميعهم من جماعته، ورأيتهم مستعدين للتسجيل.

الحملة المضادة

وكان هناك مسجّلتان اثنتان. عرضت موقفي الواضح وكانت النتيجة أن وقف الجميع مصفقين. في اليوم التالي طلبت إلى صاحب الديوانية إعطائي نسخة من الشريط، لكن هذا الصديق قال لي إن المسجّل الذي يخصه لم يسجّل شيئاً. فقلت له: أعطني نسخة من الشريط الثاني التابع للإخوان المسلمين. وفي اليوم الثاني قال إن الثاني لم يسجّل شيئاً أيضاً. وهنا عرفت خدعة الإخوان المسلمين. كانوا يعتقدون أنهم سوف يحرجونني وتكون الندوة لمصلحتهم فيوزعونها في المنطقة، ولما وجدوا أن الندوة جاءت لمصلحتي طمسوها.

والحقيقة أننا ارتكبنا خطأ كبيراً ككتلة النواب الثلاثين عندما قررنا أن نحافظ على تماسكنا ولا نجعل الانتخابات تفرّقنا، وذلك بأن يكتفي كل فريق في عرض برنامجه الانتخابي من دون مهاجمة الفريق الآخر. وكان الإخوان المسلمون حريصين على ذلك خشية أن نفضح مواقفهم المؤيدة لصدام حسين في كل النشاطات التي قام بها الإخوان المسلمون في العالم، والتي فصّلها مسؤول الإخوان في الأردن بأسماء الأشخاص الكويتيين الذين شاركوا فيها.

أمام هذا الوضع، قررنا أن نقيم ندوة ثالثة لكن هذه المرة لن تكون هناك دعوة عامة. ندعو فيها أهالي المنطقة فقط في ديوانية أحد النشطاء من شبابنا في الروضة ونسجل الندوة ونوزعها. وهكذا كان.

ولابدّ أن أذكر أن هذه المعركة الانتخابية كانت الأهم والأصعب، وتجندت لها العناصر الطيّبة والصادقة في البلد، وبذلت نشاطاً محموماً وتشكلت لجان عدة لم أكن أنا أعلم بوجودها ولا حتى لجنتي الانتخابية إلا بعد أن ظهرت النتائج بفوزي بالانتخابات، وكانت فرحة عارمة عبّر عنها شباب الروضة الذين أصروا على الاحتفال والتظاهر طوال تلك الليلة. أقمت حفلة عشاء للناخبين من المنطقة فأصرت زوجتي فاطمة المُلاّ أن يكون الأكل من «طبخ البيت» وسألتني عن العدد فقلت لها نحو 600 شخص. وتمّ إعداد الطعام في البيت كنوع من التعبير عن المودّة والشكر لأولئك الذين بذلوا جهوداً غير عاديّة، سواء في نشاط الحملة الانتخابية، أو في الردّ على الاتهامات التي وُجّهت إليّ شخصياً. وفوجئت بحضور نحو 1200 ضيف! ومع ذلك فقد كان الأكل كافياً، فقد أكرمتهم مشكورة مني، زوجتي فاطمة بنت ملا صالح الملا، بما عُرف عنها من كرم الضيافة وطيب اللقاء.

لم تكتمل فرحتنا، فقد خسرنا كلاً من الأخ جاسم القطامي وسامي المنيس. أحزنني هذا كثيراً ولمت نفسي على ذلك، لأن الجميع كان خائفا عليّ من شدة الحملة المضادة لي، فتكثف العمل في منطقتي، وكان ذلك على حساب اللجان في المناطق الأخرى.

ولكن بشكل عام كان عدد النواب الجيدين في هذا المجلس المنتخب يفوق كل المجالس التي سبقته، لولا موقف الإخوان الذين قاموا بلعبتهم فور أنْ بدأت عملية انتخابات اللجان في أول جلسة للمجلس. وأذكر قصة طريفة حدثت عند انتخاب لجنة الشؤون الصحية والعمل بالمجلس. كان من بين الأعضاء النائب عايض علوش المطيري وعرفني عليه خالد العدوة وأوصاه بالتصويت لي عند انتخاب الرئيس للجنة وهو ديني سلفي مثل خالد العدوة فوعد بذلك. وعندما جاء وقت الانتخاب في اليوم التالي لم يف بوعده فأخبرت العدوة بذلك فأحضره وسأله لماذا لم تصوت للدكتور، فرد قائلاً إنه نسي في تلك اللحظة وعده بالتصويت لمصلحتي. كان واضحاً أن الشيخ سعد العبدالله قد أصر على الجميع ألا يعطوني أصواتهم ومنهم علوش الذي غيّر موقفه خلال (24) ساعة.

محمد المرشد هذا إنسان رائع وشخصية محترمة لم يستطيعوا إركاعه لا بالمغريات ولا بالتهديد وظلّ محافظاً على مواقفه الوطنية الصلبة كل الوقت. فحين ظهرت نتائج انتخابات لجنة الشؤون الصحية ولم أفز برئاستها وجّه كلاماً قاسياً إلى أحمد باقر -السلفي- الذي رشّح نفسه منافسا لي وفاز بدعم حكومي واضح متسائلاً عمّن هو أهل أكثر من «الدكتور» لترؤس هذه اللجنة؟

في السنة التالية كان عبدالله الهاجري وزيراً ثم أصبح نائباً، فجاءني أحد الأعضاء ممّن صوّت لي في الدورة السابقة وقد تم قرص أذنه على التصويت لي في السنة الماضية، وقال إن عبدالله الهاجري رجل جيد ونريد أن نردّ له اعتباره ونؤيده في رئاسة اللجنة. فجاءت نتيجة الانتخاب صوتا واحدا لي هو صوتي. وكان كل عضو يدلي بصوته يهرب بسرعة حتى لا يواجهني. كان واضحاً أنهم لم يصوتوا لي بناء على تعليمات لأن الإحراج كان بادياً على وجوههم.

ما يحزن أكثر أن هؤلاء الذين سعوا ضد ترشيحي لرئاسة اللجنة لم ينتظموا في عملها، بل أفشلوا عمل اللجنة. فعلوش على سبيل المثال لم يحضر سوى جلسة واحدة هي جلسة التصويت.

اجتماع العون

في السنة الأخيرة جاءني محمد المرشد وقال إننا نريدك أن تكون رئيس لجنة حقوق الإنسان، وكان هو رئيسها المعتاد، ولكنه أراد التنازل لي لأنه وجد الأمر مهيناً وأن الجماعة تعمدوا إبعادي عن اللجنة الصحية، ووصل به الغضب والرغبة في الرد على الحكومة وجماعتها الى التنازل عن رئاسة اللجنة وتسليمها لي، وقد اتفق مع أعضاء اللجنة على ذلك. شكرته على شعوره النبيل واعتذرت عن عدم رئاسة لجنة حقوق الإنسان، مبديا رغبتي في الاكتفاء بعضوية اللجنة، لأن اللجنة تحتاج إلى تفرّغ كامل لأهميتها ولا أستطيع خدمتها كما يجب، ويعود الفضل لنجاح اللجنة في دورها الإنساني المميز لجميع الموجودين على أرض الكويت من مواطنين وأجانب، لإخلاصه وتفانيه ومساندة النائب الإنسان أحمد النصار مقرر اللجنة.

دعانا جاسم العون إلى بيته بعد ظهور نتائج الانتخابات، وقد كان لدينا تقليد أن ننتخب رئيس مجلس الأمة قبل الجلسة الأولى لنكون مستعدين لمواجهة الحكومة. وكانت الروح السائدة وقتئذ بين النواب فيها الكثير من التحدي، وكان هناك طرح قوي بأن يكون لنا موقف موحد من رئاسة المجلس ومن الحكومة. فطرحت في الاجتماع ألا يعود الشيخ سعد العبدالله رئيساً للوزراء وأن البلد يكفيه ما حدث له نتيجة لإدارته. فلقي هذا صدى إيجابياً لدى خالد العدوة الذي كان جالساً بقرب مبارك الدويلة وهو من الإخوان المسلمين وامتعض من تأييد العدوة لي. فقام خالد من مكانه وأتى إلى جانبي مع صديقه علوش. وأيّد الفكرة وزاد على ما قلته عن إدارة سعد العبدالله. عندئذ لم يتمالك الدويلة فقال: «إن سبب طرحكم هذا هو تحالفكم مع آخر ضد الشيخ سعد العبدالله». هذا الكلام وتّر الجو مما تسبّب في عدم التصويت على هذا الاقتراح. ثم طرح موضوع المشاركة في الحكومة فقال مشاري العنجري إنه إذا أردنا المشاركة في الوزارة فيجب أن يكون لنا الأغلبية فيها ليصبح القرار لنا. ولكن بعد نقاش طويل اتفق على أن نشارك بستة أعضاء. وكلف المجتمعون عشرة من الحاضرين بالذهاب إلى الأمير وطرح تصورنا بخصوص رئاسة الوزارة وتشكيل الوزارة وكنت من بين العشرة. وفي الطريق إلى الديوان الأميري صدر أمر أميري بتعيين الشيخ سعد العبدالله رئيساً للوزراء وأُبلغنا القرار ونحن بالسيارة متّجهون إلى الديوان. عندئذ أُسقط في يدنا، ورأينا أن القرار استبق الاجتماع بقصد واضح وهو رفض أي طلب بشأن تعيين رئيس الوزراء وأن الأمير لا يرى له بديلاً. ومع ذلك ذهبنا وقابلنا الأمير. كان الكلام عامّاً وودّياً ولكن لم يطرح معه موضوع رئاسة الوزارة لأنه أصبح في حكم المنتهي. ولكنني طرحت موضوع موقف الأمير مما يدور، وقلت إن الدور المنتظر أن يكون الأمير حكماً بين الوزارة ومجلس الأمة وليس مسانداً للحكومة على حساب المجلس. ووجدت أنه لم يرفض هذا الاقتراح وإنما رحب به وأبدى استعداده للقيام بهذا الدور. وحين انتهى الاجتماع وعند خروجنا من عند الأمير جاءنا سكرتير الشيخ سعد العبدالله وأخبرنا أن رئيس الوزراء يريد مقابلتنا فقلت للأعضاء إننا غير مفوضين للقاء رئيس الوزراء ويجب أن نعتذر، لكنهم لم يستحسنوا هذا الاقتراح. ذهبنا الى مكتبه وجلست في طرف المكان. وصار النواب يتحدثون معه وأنا من جهتي لم أشارك في الحديث، لكنه لم يقل أي كلمة تخصّني.

عندما تركنا الاجتماع أوقفنا أحد المسؤولين في مكتبه وسألنا إن كنا طرحنا موضوع رئاسة الوزارة مع الأمير. ولما أخبرناه أننا لم نفعل قال: الشيخ سعد العبدالله كان قلقاً من اجتماعكم مع الأمير.

واتضح فيما بعد أن هذا الموضوع قد أثير من قبل عائلة الصباح في لقاءات أبناء العائلة، وكان هناك تذمر واضح من سيطرة الشيخ سعد العبدالله على الأمور واستفراده بالقرار خصوصا بعد أن حلّ مجلس العائلة. ويقال إن الأمير جمع العائلة وقال لهم: إنكم تستطيعون الحديث مع الشيخ سعد العبدالله في أي موضوع ما عدا فصل ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء. هذا حق اكتسبناه ولن أفرّط به.

اجتمعنا بعدئذ في منزل النائب ناصر الصانع من الإخوان المسلمين على أساس أن ننتخب رئيس المجلس.كان المرشحون جاسم الصقر ويوسف العدساني ومبارك الدويلة وأحمد السعدون. التقينا قبل الاجتماع جاسم الصقر، وبحثنا الموضوع وقلنا له إنه الأقرب إلينا ولو كان الوضع عاديا لقلنا لا داعي لبحث هذا الموضوع وكنا سنختارك بدون شك. لكن التكتل الذي واجه النظام منذ حل المجلس عام 1986 إلى الآن هو التكتل النيابي الذي كان يقوده أحمد السعدون، وكل التحدي الذي تمّ كان نتيجة حركة دؤوبة من داخل ديوانية السعدون. وبالتالي لم يعد السعدون فرداً عادياً وإنما أصبح عنوان معركة من أجل الديمقراطية، وحاول النظام إسقاطه في منطقته ولم يستطع، والآن يريد إسقاطه من رئاسة المجلس لينتقم منه. سقوطه في رئاسة المجلس يعني سقوطاً لنا كلنا. وعدم الوقوف معه يعني خذلاناً للسنوات الطويلة من المقاومة الشعبية من أجل الديمقراطية. وكان جاسم الصقر رحمه الله وطنياً وقومياً صادقاً دمث الأخلاق كما يعرفه الجميع، ولذلك لما سمع ردّنا قال إنه مقتنع بموقفنا وإنه سيسحب ترشيحه للرئاسة.

حمد الجوعان قابل ناصر الصانع وسأله عن سبب ترشيح الدويلة للرئاسة. في تلك الفترة كان الإخوان المسلمون قد اكتسحوا الانتخابات الأردنية واستطاعوا أن يصلوا إلى رئاسة البرلمان الأردني. والإخوان في الكويت يريدون أن يفعلوا الشيء نفسه. فعندما سأله حمد لماذا رشّحتم الدويلة برّر الصانع ذلك بأن وجود أكثر من مرشح سيقلل من فرصة نجاح السعدون وبالتالي فإنهم يرون الفرصة مواتية لمرشحهم أكثر من السعدون. فسأله حمد: ما موقفكم لو انسحب جاسم الصقر؟ هل ينسحب الدويلة؟ فقال: نعم، في هذه الحالة ينسحب الدويلة.

التصفيق

ولذلك عندما بدأنا الاجتماع في بيت ناصر الصانع كان جاسم الصقر قد سحب ترشيحه ولم يبق عذر لبقاء الدويلة في السباق فوجّه حمد الجوعان الطلب إلى الدويلة للانسحاب، ولكن إسماعيل الشطي وهو نائب من الإخوان المسلمين اعترض وسأل: ولماذا ينسحب؟ فقال له حمد إنه علم من ناصر الصانع أن الدويلة سينسحب لو انسحب الصقر. فقال إسماعيل الشطي بحدة إن الدويلة هو مرشح الحركة الدستورية الرسمي ولا يستطيع أن يقف ضد قرار الحركة. وعبدالعزيز العدساني انسحب من الاجتماع بعد أن أعلن أنه سوف يرشح نفسه للرئاسة. فقمنا بالتصويت وفاز أحمد السعدون وانسحب الدويلة لمصلحة أحمد السعدون.

ومع أن تشكيلة المجلس كانت بشكل عام لا بأس بها، فإن هذا المجلس خيّب الآمال لأنه لم يكن في المستوى المطلوب. كان عليه أن يحاسب على الكارثة التي حلت في الكويت. لم يكن من المعقول، ولا تحت أي تبرير، أن نغضّ النظر عن هذه الكارثة. حكومات كاملة تطير لمسؤوليتها في أحداث أقل خطورة، ونحن في مجلس الأمة نرفض تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق بما حدث ليحاسب المقصّر ونسد كل الثغرات التي أدت إلى هذه الكارثة التي ضيعت البلد كله وتسببت بموت المئات من خيرة شبابنا وبناتنا وتدمير بلدنا وحرق آبار نفطنا، علاوة على التلوث الذي حصل والذي ما زال يحصد العشرات من المواطنين.

كان طبيعيا أن يرفض الشيخ سعد العبدالله تشكيل هذه اللجنة وأصرّ على تسميتها لجنة تقصّي الحقائق. ووافق المجلس على ذلك مع الأسف الشديد، ومع هذا التنازل المذِلّ فإن وزير الدفاع أصدر أوامره لضباط الجيش بأن لا يتعاونوا مع اللجنة استهتاراً باللجنة العديمة الصلاحيات، ولم تنجز اللجنة تقريرها إلا بعد ثلاث سنوات، ولم يكلف المجلس نفسه الوقوف أمام التقرير بشكل جدي، وقد جُعل قسم منه سرياً للتستر على الفضائح التي احتواها، وهي لا شيء يذكر بالنسبة لما هو معروف.

وعندما أحرجت رئيس الوزراء بذكر الأسباب التي جعلته ينزع صلاحيات الهيئة المسؤولة عن الاستثمارات الخارجية ويعطي الصلاحية لثلاثة من الأسرة فقط لزم الصمت، وألححت عليه مطالباً بالجواب في ثلاث جلسات متتالية بعدها قاطع جلسات المجلس. وبعد الإلحاح عليه من قِبل الوزراء قَدِمَ إلى المجلس للردّ على الاستفسارات. ظننت أنه سيردّ على الأسئلة الكثيرة التي وجهتها ولكنه صار يتحدث في كلام عام ولم يقل كلمة فيها رد على الأسئلة. وحين انتهى من خطابه الذي دام نحو الساعة لم يصفق له أحد. وكان واضحاً للأعضاء أنه لم يردّ على أي من الأسئلة. وتكلم بعده مباشرة أحمد الشريعان. كانت أول نقطة في حديث الشريعان هي المطالبة بفصل ولاية العهد عن رئاسة الوزارة. عندئذ ضجّت القاعة كلها بالتصفيق.

الشيخ سعد يتحدث مدة ساعة فلا يصفق له أحد، حتى رجال المباحث الموجودون بين الجمهور، ثم يأتي الشريعان ليطالب بفصل ولاية العهد عن رئاسة الوزارة فيلقى طلبه كل هذا التصفيق من جميع الأعضاء ومن الجمهور! أعتقد أن ذلك اليوم كان أسوأ يوم في حياة سعد العبدالله. كانت صدمة قوية لم يتوقعها. ومنذ ذلك اليوم لم يدخل المجلس. وصار يدعو الأعضاء إلى مجلسه الخاص. وقاطع المجلس بسبب الإحراج. والأدهى والأمرّ أنه صار يدعو أعضاء المجلس للانعقاد في بيته ويترأس هو الجلسة ويحضر الأعضاء جميعاً هذا اللقاء غير الدستوري. أنا والعضو النبيل محمد المرشد قاطعنا هذه الاجتماعات المنافية لكل القواعد والأصول البرلمانية وأثرنا ذلك في المجلس من دون فائدة.

قلت للنواب في إحدى جلسات المجلس إن مكان اجتماع المجلس هنا وليس في مجلس الشيخ سعد العبدالله، ورئيس مجلس الأمة هو أحمد السعدون وليس سعد العبدالله. لقد صرتم «تقلقسون» لسعد وهذه إهانة لكم وللمجلس. وقد علّق إسماعيل الشطي على كلمة «يقلقسون» قائلاً إن هذه كلمة كبيرة يا دكتور. قلت له: «أعرف ذلك ولكنني لم أجد كلمة أدقّ من هذه لوصف تصرفكم هذا».

توتّر الجو عندئذ، ولكن لم يكن بد من وضع الأمور في نصابها. فلا يجوز للمجلس أن يجتمع في ديوان رئيس الوزراء. ويترأس رئيس الوزراء الجلسة بوجود رئيس مجلس الأمة. وقد لمت أحمد السعدون على ذلك. بعد يومين جاءني أحد الأعضاء الأصدقاء وقال لقد قلقسنا أمس مرة ثانية عند الشيخ سعد العبدالله. وهكذا، وللأسف، ورغم التحدّي الذي خضته لدخول هذا المجلس، ورغم وجود أعضاء جيّدين فيه، فقد كان هذا المجلس من أسوأ المجالس التي اشتركت فيها.

جماعة الخطيب

هذه حادثة لا بدّ من ذكرها حتى يرى القارئ الحال الذي وصل إليه هذا المجلس. أثناء الاحتلال تشكلت بعض اللجان لمتابعة قضايا المعتقلين في السجون العراقية لمعرفة أماكنهم وترتيب زيارات لأهلهم وتزويدهم ببعض الحاجيات التي يحتاجون إليها وواصلت نشاطها الإنساني هذا بعد التحرير، لكن سعد العبدالله أراد أن يؤهل الشيخ سالم صباح السالم الذي كانت تصرفاته أثناء الاحتلال مثيرة لمشاعر الكثير من الكويتيين في الداخل والخارج لأنه كان وزيراً للداخلية واعتماده أجهزة أمن الدولة لمضايقة الكويتيين الذين كانوا تحت الاحتلال أو اللاجئين في دول أخرى، فسعد العبدالله عيّنه بعد التحرير وزيراً للخارجية عندما أعاد المجلس الوطني المعيّن، ولكنه لم يستطع تعيينه وزيراً بعد حل المجلس الوطني وانتخاب مجلس الأمّة عام 1992، فعيّنه رئيساً للجنة الأسرى والمعتقلين لأن موضوع الأسرى حساس عند الكويتيين. فقام بحل كل هذه اللجان وشكل لجنة واحدة برئاسة سالم صباح السالم مما أثار استياء الجميع. ولمّا قابلوا الشيخ سعد العبدالله وسألوه عن السبب اتّهمهم بأنهم «جماعة الخطيب»! وأمر بطردهم من المقرّ الذي كانوا يمارسون نشاطهم فيه. فاتخذ المجلس قراراً برفض هذه اللجنة وإعادة الاعتبار إلى اللجان الأصلية وطلب إلى الحكومة مساعدة هذه اللجان الشعبية.

تمّ ذلك عند وجود الشيخ سعد العبدالله في لندن، وعندما رجع أغضبه ذلك فعمل على إسقاط القرار في المجلس، وهنا كانت الطامة الكبرى فقد اتصل بي ثلاثة من الأعضاء في المجلس وشرحوا لي أوضاعهم المالية المتردية وأنه عرض عليهم مبلغ ثلاثين ألف دينار مقابل التصويت على نقض قرار المجلس وإعادة سالم صباح السالم رئيساً للجنة، وطلبوا إليّ ألا أفسد عليهم هذه الفرصة. وعبثاً حاولت أن أثنيهم عن ذلك وتصادف أن دخل علينا رئيس المجلس أحمد السعدون الذي كان على علم بما يجري وحاول إقناعهم بخطورة ذلك من دون فائدة. وهكذا تم عرض الموضوع مرة ثانية في المجلس ونُقِضَ القرار الأول «على عينك يا تاجر» كما يقولون. وحصلت ردّة فعل عنيفة عند الجماهير الموجودة في المجلس وطلب من حرس المجلس حماية النواب من اعتداء الجماهير عليهم. ولأول مرّة يخرج النواب من المجلس تحت الحماية المشدّدة! وأعتقد أن هذه الحادثة كانت البداية في مسلسل استعمال المال، وفتح باب الرشاوى في كل أنواع الانتخابات والتصويت، عن طريق شراء الذمم بشكل منقطع النظير لم تعرفه الكويت في تاريخها الطويل. وهكذا نرى الآن كيف يدخل المجلس عضو معدم وبعد أربع سنوات يصبح ثرياً يملك العقارات أو الشركات مما لا يتناسب مع المكافأة الشهرية التي يحصل عليها من المجلس. لا بل إن بعضهم فور فوزه بالانتخابات يحصل على مبلغ محترم ليتمكن من فتح الديوانية لاستقبال ناخبيه ومفاتيحه الانتخابية وإحاطتهم بكرم الضيافة.

وعلى الرغم من ذلك فقد قام هذا المجلس بإنجازين أفتخر بمساهمتي فيهما بشكل أساسي وهما: إعطاء المتجنسين حقهم في الانتخاب، وتشكيل لجنة برلمانية دائمة لحقوق الإنسان تستقبل شكاوي الكويتيين وغيرهم من المقيمين. والفضل الكبير يعود إلى رئيس اللجنة محمد المرشد الذي استطاع أن يفعّل دور اللجنة بشكل ممتاز حتى أن الصديق النائب اللبناني المرحوم المحامي جوزيف مغيزل طلب منّي كل التفاصيل عن اللجنة لإيجاد لجنة مماثلة في المجلس النيابي اللبناني. فكانت فاتحة لتشكيل لجان مماثلة في بعض البرلمانات العربية. كم كانت مهمّة اللجنة صعبة في البداية، لكن طبيعة أعضاء اللجنة والدعم الكامل لها من قبل رئيس المجلس أحمد السعدون ساعدها على تحقيق ما حققت من إنجازات مهمة.

توضيح وتنويه

منذ أن بدأنا في نشر ذكريات الدكتور أحمد الخطيب في العام الماضي، كنا مدركين لسقف الجرأة والصراحة والوضوح التي تناول بها الدكتور الخطيب سرد تلك الوقائع أو التعليق عليها. وكان نصب أعيننا ما قد يترتب (قانونياً) على نشر بعض تلك الوقائع أو التعليقات، فتجاوزنا نشر بعض الجزئيات التي تضمنها الجزء الأول من كتابه «ذكريات العمل الوطني... الكويت من الإمارة إلى الدولة»، لكنها جاءت كاملة في الكتاب وقد سمحت به الرقابة بعد تردد شديد، وبعد تجنيد فريق من القانونيين لدراسة كل حلقة نشرتها «الجريدة» وإمكان إحالتها الى النيابة.

وفي الجزء الثاني من ذكريات الدكتور أحمد الخطيب مضينا في النهج نفسه، نتجاوز بعض الفقرات أو التعليقات، التي تحتمل تفسيراً قانونياً سلبياً، وهو نشر فيه شيء من التصرف الذي لا يخل بسياق السرد ولا بمضمون الكتاب. ولتباين القانون في رقابة الصحافة واختلافها عن رقابة الكتب ورقابة الكمبيوتر والمدونات كان لا بد من إيضاح هذه الحقيقة للقارئ، وأن هناك بعض الفقرات أو الجزئيات تجاوزنا نشرها لأسباب رقابية بحتة.

الجريدة

غداً: الاغتيالات السياسية ومحطات محلية

back to top