أيام البيع


نشر في 05-04-2009
آخر تحديث 05-04-2009 | 00:00
 محمد سليمان في التراث الشعبي يمجدون المشتري ويعلون من شأنه قائلين "اللي اشترى أحسن من اللي باع"، فالمشتري يضيف دائما إلى ممتلكاته ومعارفه وخبراته، وكانوا في المقابل يقللون من شأن البائع ويسخرون منه أحيانا لأنه في تقديرهم مسرف وغير حكيم، ويخسر أرضه وهيبته وممتلكاته، وأظننا مازلنا نتذكر التمثيلية الإذاعية المصرية القديمة "عواد" وبطلها الذي كان محط سخرية أهالي قريته والأغنية الشهيرة التي رددها الناس قبل أعوام وأعوام: "عواد باع أرضه... شوفوا طوله وعرضه"، وقد كانوا في القرى ينصحون الذاهب إلى مجلس ما لفض المنازعات قائلين "اشتري ما تبعش" أي دع الآخرين يتكلمون ولذ بالصمت لكي تشتري به المعلومات وأسرار الآخرين وكل ما يعينك على المواجهة والفوز بعد ذلك.

وفي التراث العربي سنكتشف أن معظم الفقهاء وعلماء اللغة والمتكلمين والأئمة قد أمضوا سنوات وسنوات في مجالسة الكبار والأخذ عنهم، وفي السفر إلى المدن العربية المختلفة على ظهور الخيل والجمال، أو سيرا على الأقدام لكي يتتلمذوا على عالم كبير هنا أو هناك، أي لكي يشتروا المعرفة والعلم والخبرة قبل أن يسمح لهم بالجلوس للإفتاء وإلقاء الدروس أي للبيع في النهاية، والإنسان منذ بداية التاريخ يعيش بين قطبي البيع والشراء ويلعب دورالبائع والمشتري في الوقت نفسه، ويحول كل ما حوله أحيانا إلى بضاعة قابلة للبيع والانتقال من يد إلى أخرى، ولم ينج الإنسان نفسه من هذا التحول إلا بعد تحريم تجارة العبيد في القرن التاسع عشر.

على مدى أربعة عقود كان البيع مهنة لي، فقد كلفت بعد تخرجي عام 1968 بالعمل في الشركة المصرية لتجارة الأدوية التي دربتني لمدة عام كامل على فن البيع وعلى الأعمال الإدارية والمالية في فروعها، وكانت النصائح والأوامر الموجهة إلي من كل قيادات الشركة في ذلك الوقت تتلخص في كلمة صغيرة واحدة هي: بِع... بِع... بِع, حتى صرت أحلم بالبيع وأتفنن في إغراء الصيدليات والمستشفيات بالشراء، وبعد انتهاء فترة التدريب رحت أتجول في القاهرة لأدير فروع الشركة التي يتغيب مديروها لسبب أو لآخر. وعندما اكتشفت في صيف 1970 أن الانتقالات تلتهم معظم راتبي وأنني لا أحصل على راتب المدير وحوافز وعمولات البيع طالبت الإدارة بترقيتي والموافقة على منحي كل مخصصات وحوافز مديري الفروع واعتباري مديرا متجولا، وأغضبني رد الإدارة الساخر على مذكرتي وتندره على منصب المدير المتجول الذي اخترعته لنفسي، فأعلنت التمرد وهددت بالاستقالة فردت الإدارة بأنني مكلف وأن الاستقالات محظورة في زمن الحرب والانقطاع عن العمل لا يختلف كثيرا عن فرار الجندي من المعركة، لكنني رغم هذا الرد البليغ تركت الشركة والقاهرة واختبأت في إحدى قرى محافظة الجيزة لكي أعمل مديرا لصيدلية صغيرة، وأستمتع بحكايات القرويين وقصصهم, حتى نجح رجال الشرطة بعد ستة شهور في الوصول إلي وإعادتي إلى الشركة التي قررت ترقيتي وتعييني مديرا لأحد فروعها في وسط القاهرة وحشو رأسي بشعارها العتيد بع وبع وبع لعدة أعوام، حتى مللت فاستقلت في منتصف السبعينيات، واخترت العمل في الصيدليات بين الناس بائعا ومشتريا وراصدا ومثرثرا ومستمتعا بحكاياتهم وأحلامهم وبلاغتهم الشعبية.

بعلب ملونة

وبائع يتسلى بعد أسنانه

كان عليه أن يقعد في الدكان عشرين سنة

لكي يساعد امرأة بمعجون السكر

وطفلا على التبول خارج السرير

وكان عليه أن يصحب شيخا إلى باب بستانه

وأن يبيع النوفالجين حبة حبة

كيلا يسير كحاملي النعوش.

لكن راية أكبر للبيع ارتفعت وحلقت في العقود الثلاثة الماضية وصارت شعارا مقدسا للدولة بعد الانفتاح والانقلاب السياسي والاقتصادي الذي حول كل ما بنيناه واشتريناه في الخمسينيات والستينيات إلى سلع قابلة للبيع, شركات- مصانع- بنوك... بالإضافة إلى الصحراء، وكل ما يعين الدولة على التحرر من الأعباء أو يضيف إلى مواردها.

وفي الشهر الماضي اعتصم عمال وموظفو شركة الأدوية التي دربتني على البيع في صباي احتجاجا على سعي الدولة إلى بيع 40 ألف متر مربع مملوكة للشركة وتقع على النيل، وتضم مخازن الشركة والمباني الإدارية، وهي أرض يسيل من أجلها لعاب المهووسين بإقامة الفنادق والمنتجعات السياحية.

ومن الطريف أن تفكر الدولة أيضا في بيع الجزر النيلية والمياه، فقد نشرت جريدة "المصري اليوم" في 24 مارس حوارا أجرته مع وزير الري قبل مغادرة وزارته جاء فيه: "ناقشت الحكومة بيع ترعة السلام للقطاع الخاص بحضور رئيس الوزراء بسبب عجز الدولة عن استكمالها في ظل الظروف الحالية"... وهي الترعة التي هللنا لها قبل أعوام واعتبرناها أساس تعمير سيناء، وتحويل شمالها إلى حقول وحدائق وقرى منتجة ومأهولة, لكن المسؤولين لم يعيشوا في القرى ولم يسمعوا حكايات القرويين عن الخائبين الذين أدمنوا البيع وخاصموا الشراء.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top