صباح بيروت الناقصة

نشر في 14-05-2008
آخر تحديث 14-05-2008 | 00:00
 بلال خبيز

صباح بيروت ينقص أكثر فأكثر كل يوم. الخبز والمسافرون ولم شمل العائلات والزيارات الصباحية بين الجيران، والجلوس على أرصفة المقاهي، والتأمل في البحر. لكنه ينقص أيضاً ما لا نستطيع تعويضه: تلك الأقلام التي توقفت عن الكتابة، لأن ثمة مقاتلين من فئة النجوم الخمس أحرقوا مكاتبهم وكسروا أقلامهم.

بات الصباح اللبناني ناقصاً. كل يوم يزداد الفقد فقيداً أو أكثر. المقاتلون الذين اثبتوا أنهم يستطيعون القتل والخطف وقطع الطرقات لا يعبأون كثيراً بالناس، ناسهم وناس خصومهم على حد سواء. إذ ماذا يعني أن تدفع شخصاً ليقتل وقد يُقتل في شوارع بيروت غير أن من أرسله لا يعبأ بمصيره؟ ثم ماذا يعني أن تقوم قوات لبنانية بمحاصرة لبنان؟ ومن أجل أي قضية تقتل عاصمة بكاملها، ويتم تدمير نمط حياتها؟

كنا نعرف منذ زمن بعيد أن السياسة تكتسب قوتها وجبروتها من قدرتها على جر الناس إلى ما يخالف مصالحهم جملة وتفصيلاً. والسياسة في لبنان هي السياسة بامتياز. نذهب إلى الحرب، لأننا نتقن الحرب، وليس لأننا نريد أن نحقق أهدافاً تفوق في أهميتها حيوات الذين نضحي بهم. ونبني مقاومة، ليس لأننا نريد منها أن تحمي البلد من أخطار خارجية، بل لأننا نريد أن يحميها البلد من كل خطر خارجي. ونبني جيشاً لا يستطيع أن يقاتل على الحدود ولا أن يفتح الطرقات. نبني جيشاً من زجاج، ونخاف أن يكسره حجر طائش من أحجار المتظاهرين. كل هذا يحصل في لبنان دفعة واحدة. وربما ليس ثمة ما هو أدهى وأكثر مرارة من أن يزحف مقاتلو «حزب الله» بسياراتهم الفخمة إلى بيروت ويطلقون الرصاص في الهواء والقذائف على فضاء الشوارع الخالية، ليتسنى لقادتهم أن يدّعوا أنهم هزموا ميليشيا «تيار المستقبل» و«الحزب الاشتراكي»، وليس ثمة ميليشيا ولا من يحزنون. نصنع حرباً من طرف واحد. حرب نريد لها أن تسفر عن كل نتائج الحروب وآثارها، لكنها لم تكن حرباً حقيقية. هل ثمة ما هو أشد سوءاً من أن يحارب رجال المقاومة شوارع عزلاء وخالية من ناسها؟ هل ثمة حرب أقسى وأفظع؟ هل ثمة سياسة أنقى من هذه السياسة وأعلى كعباً منها؟ السياسة التي تجعل الانتصار مدوياً لأن العدو غير موجود. كما لو أن مقاتلي «حزب الله» كانوا يقاتلون أشباح بيروت. تلك الأشباح التي هجسنا طويلاً بوجودها في الأعوام القليلة الماضية، وكانت تعيث قتلاً واغتيالاً وتفجيراً في شوارع بيروت وقادتها ومنتخبيها. «حزب الله» في شوراع بيروت قاتل جيشاً جراراً من هؤلاء، الذين لا يظهرون في ضوء النهار ولا يمكن أن نسمع خطواتهم في الليل. لذا قرر المقاتلون من فئة النجوم الخمس، أن يطلقوا النار كيفما كان علّهم يصيبون هؤلاء الذين تستحيل إصابتهم. والأرجح أنهم نجحوا في تحقيق أمر لا شك في تحققه: لقد استطاعوا أن يثبتوا امتيازهم على الناس، ناسهم وناس خصومهم، ويؤكدون لهم أنهم لا يعانون مثل الناس تعطيل المدارس، ولا ندرة السلع في المحلات، ولا انقطاع الخبز. فخبز الناس في واقع الأمر هو ما يفيض عن حاجة هؤلاء المقاتلين. مثلما أنهم لا يلقون بالاً لارتفاع أسعار النفط، ذلك أن سياراتهم تعبر الشوارع بسبب ومن غير سبب، لأنهم يريدون أن يثبتوا أنهم يملكون ما لا نستطيع امتلاكه.

صباح بيروت ينقص أكثر فأكثر كل يوم. الخبز والمسافرون ولم شمل العائلات والزيارات الصباحية بين الجيران، والجلوس على أرصفة المقاهي، والتأمل في البحر. لكنه ينقص أيضاً ما لا نستطيع تعويضه: تلك الأقلام التي توقفت عن الكتابة، لأن ثمة مقاتلين من فئة النجوم الخمس أحرقوا مكاتبهم وكسروا أقلامهم. والصحف المعطلة قسراً في بيروت هي قطعة من روحها. بيروت التي تتنفس حبراً ودخان مطابع منذ أن رأت النور على ضفة هذا البحر الذي صار وحيداً. بيروت اليوم يضيق نفسها، ليس لأن الخبز مقطوع، ولا لأن معظم أطفالها لم يغادروا مداخل الأبنية التي يسكنون فيها منذ أيام، وليس لأن الوجوم يغطي وجوه أهلها إلى حد ينذر بانفجار الوجوه، هذا كله مؤلم ويبعث على الحزن العميق، لكن التنفس أصبح في بيروت شاقاً وبالغ الصعوبة، لأن ثمة من قرر أن يعطل صحفها ووسائل إعلامها، بغية القبض على روحها ومنعها من أن تكون بيروت.

ليست المرة الأولى، لكنها الأصعب. لأن ما جرى لم يكن مجرد إحراق مكاتب صحف ومحطات تلفزيونية، بل لأنه لو قيض لهذه الصحف والمحطات أن تعود إلى الحياة، وهي ستعود، فإنها ستظل تلعن مَن حاول خنق بيروت والقبض على روحها إلى أبد الدهر.

* كاتب لبناني

back to top