الغرب وقلبه الأجوف

نشر في 30-06-2008
آخر تحديث 30-06-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت إنه لأمر مغر ٍأن أعقد المقارنة بين منظمة حلف شمال الأطلنطي «الناتو» والاتحاد الأوروبي، وبين حال الفريقين الفرنسي والإيطالي في نهائيات بطولة 2008 لكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم.

الحقيقة أن وجه الشبه الأول بين الجانبين يتلخص في عملية «تفسخ المنافسة». فقد يرى الاتحاد الأوروبي و«الناتو» في نفسيهما متنافسين محتملين أو شريكين متكاملين في مجال الدفاع. إلا أن ما يصرح به زعماء المؤسستين في المناسبات الخاصة يكشف عن شعور بالإحباط المشترك.

يقول أحد المسؤولين في منظمة حلف «الناتو»: «لقد فشلنا في ترجمة حضورنا العسكري إلى نفوذ سياسي»، وهذا يشبه كثيراً ما صرح به ممثلو الاتحاد الأوروبي في تعليقهم على الدور الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط، حين قالوا في عبارة حزينة: «لقد فشلنا في تحويل المعونة الاقتصادية إلى نفوذ سياسي».

إن الأزمة التي تواجه كلاً من المؤسستين الآن، في أعقاب التصويت الأيرلندي ضد معاهدة لشبونة وتدهور الحالة الأمنية في أفغانستان، مختلفة تمام الاختلاف بطبيعة الحال. إلا أنها في النهاية أزمة متعلقة بالهوية، فقد اضطر «الناتو» والاتحاد الأوروبي إلى إعادة تحديد وظيفتيهما وإعادة النظر في أغراضهما بعد عملية التوسع المزدوجة.

ومن وجهة النظر هذه، فربما يكون بوسعنا أن نقول إن التحدي الذي يواجه حلف شمال الأطلنطي أصعب كثيراً، إذ إن توسع هذه المنظمة الأمنية لا يعني فقط قبول أعضاء جدد، بل إنه يفرض أيضاً تحمل مسؤوليات جديدة «خارج نطاق عمل الحلف المعتاد».

لقد تبين أن الانتقال من شمال الأطلنطي إلى أفغانستان، ومن الردع إلى القتال، يشكل تحدياً رئيسياً بالنسبة إلى حلف شمال الأطلنطي، وهو الاختبار الذي ربما يكون أشد صعوبة من اختفاء الاتحاد السوفييتي منذ ما يقرب العشرين عاماً.

هل يستطيع حلف «الناتو» أن يتحمل الهزيمة في أفغانستان؟ هذا ليس بالسؤال النظري أو التجريدي على الإطلاق، إذ إن التحدي الذي تمثله أفغانستان لم يُـقدَّر حق قدره منذ البداية، وعلى هذا فلم يوفر له الحلف الموارد اللازمة، ومازال الافتقار إلى خطة واضحة في أفغانستان يفرض مشكلة عويصة، هل يتلخص الهدف هناك في إلحاق الهزيمة بتنظيم «القاعدة» أم إحلال الديمقراطية؟ إلا أن هذه المشكلة أقل وطأة في الأمد القريب من مشكلة الافتقار إلى الموارد الكافية.

رغم أن مساحة أفغانستان تماثل مساحة فرنسا، فإن «الناتو» أرسل عدد القوات نفسه الذي أرسله إلى البوسنة ذات المساحة الضئيلة، والحرب في العراق لم تتسبب في إفقاد الحلف تركيزه في أفغانستان فحسب؛ بل تسببت أيضاً في تقويض وحدة الهدف بين الحلفاء، ومن دون تبني قدر أعظم من الجدية في مواجهة دور «الملاذ» الذي تلعبه باكستان رغماً عنها، فلن يكون هناك حل للمعضلة التي يواجهها الحلف في أفغانستان.

ترتبط المشكلة الكبرى الأخرى التي تواجه «الناتو» بخسارة الولايات المتحدة مكانتها العالية على الصعيد الأخلاقي. فحتى في الأعمال الفنية التي تصور هجرة الأوروبيين، أصبحت أميركا أكثر ارتباطاً بالعبودية وليس الحرية، وفي النسخة الأخيرة التي قدمتها فرقة أوبرا برلين لأوبرا فيديليو من تأليف بيتهوفن، ظهر السجناء على المسرح وكأنهم قادمون من «غوانتانامو».

إن مستنقع أفغانستان وصورة أميركا لا يمثلان المشكلتين الوحيدتين اللتين تواجهان «الناتو»، فقد بات لزاماً على المنظمة أن تعيد تعريف أهدافها، وبصورة خاصة علاقتها بروسيا المستعيدة لقوتها، ولا ينبغي للهدف من الحلف أن يتلخص ببساطة في صيغة اللورد إسماي الشهيرة: «إبقاء أميركا بالداخل وروسيا بالخارج وألمانيا بالأسفل».

إن حلف شمال الأطلنطي بخسارته لتركيزه الجغرافي أصبح الآن في مواجهة تحد ٍكبير يتعلق بهويته، فهل يتحول إلى «عصبة للديمقراطية»؟ إن كان الأمر كذلك، فلابد أن يضع الحلف في الحسبان إقامة علاقات خاصة مع بلدان مثل الهند واليابان، على سبيل المثال لا الحصر. وإذا ما كان للحلف أن يظل «تحالفاً غربياً» في عالم تحكمه «العولمة»، فهل يتعين عليه أن يحدد بشكل أوضح علاقته بروسيا من دون أن يمنح الكرملين حق النقض في الحلف؟ أم هل يتحول «الناتو» في النهاية إلى «تحالف من أجل الاستقرار»، بحيث يتضمن كل القوى الجديدة -الصين، الهند، البرازيل، ناهيك عن روسيا- في العالم الناشئ «المتعدد الأقطاب»؟

ثمة أمر واحد مؤكد؛ ألا وهو أن «الغرب المتقلص»، ما دام يتمتع ببعض النفوذ، لابد أن يحرص على إنشاء أفضل المؤسسات أثناء الوقت الذي مازال متاحاً له.

إن المعضلة الجوهرية التي تواجه الاتحاد الأوروبي، لا تختلف كثيراً عن المعضلة التي تواجه حلف «الناتو»، فقد حقق الاتحاد نجاحاً كبيراً إلى الحد الذي جعله يقبل أعضاءً جدداً ويتحمل مسؤوليات جديدة، إلا أنه خسر تركيزه ووضوح هدفه. فما هو مشروع أوروبا اليوم؟ وأين تنتهي حدود الاتحاد الأوروبي؟ إن الاتحاد لم يعد يحلم بالتحول إلى «الولايات المتحدة الأوروبية»، كما ظل اقتراح جاك ديلورز بإنشاء «الأمم المتحدة الأوروبية» متردداً، إن لم يكن متعمد الغموض، إلى الحد الذي ينتزع منه صفة الفعالية. بعد الرفض الأيرلندي، هل يستطيع الاتحاد أن يجد الخلاص في فكرة «الناتو» القائمة على «تحالف الراغبين»؟ وهل من الممكن أن يترك أشد المؤيدين للتكامل الأوروبي الحلف من دون أن يصيبه الشلل بسبب «تحالف غير الراغبين»؟

لا شك أن الرفض الأيرلندي لا يعادل بالنسبة لأوروبا ما يشكله المستنقع الأفغاني بالنسبة لـ«الناتو». إلا أنه مازال يشكل أيضاً تراجعاً خطيراً وتحدياً ذا طبيعة مؤسسية، وسياسية بل وحتى سيكولوجية. كيف لنا أن نعيد بناء «الحبكة» الأوروبية القادرة على التوفيق بين الاتحاد ومواطنيه؟ لقد أخفق الاتحاد الأوروبي أخيراً -على نحو أشد خطورة من إخفاق حلف شمال الأطلنطي- ليس فقط في الفوز بالقلوب، بل وأيضاً في إقناع الأوروبيين بأنه في هذا العالم الذي تحكمه العولمة يشكل جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة.

* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، مؤسس وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (Ifri)، ويعمل حالياً أستاذاً بكلية أوروبا في ناتولين بمدينة وارسو

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top