الممثِّل العراقي مغبون ومضطهد ويتألم ليبقى متواصلاً مع المشاهد الفنّان طه علوان: أمثِّل لأتمكَّن من مجاراة الواقع
لصورة العراق الراهن أكثر من زاوية للأسى، تكفلت الدراما العراقية بمعالجة الكثير منها، وعالجت المشاكل التي تواجه هذا البلد المنكوب والمجبول بالحزن، لهذا لم تتوقف الأعمال الفنية العراقية عن سياقها الطبيعي، تعمل استثنائيا كي لا ينقطع التواصل مع عشاقها ومريديها، في مقدِّمهم المشاهد العراقي ومن ثم العربي. لكن الفنان العراقي يدفع ثمناً غاليا. يتحدث الممثل القدير طه علوان الى الجريدة عن هذه المعاناة.«أمثل لأتمكن من مجاراة الواقع»... يقول الفنان العراقي الرائد طه علوان وهو يقف الى جانب صورته «فقيدا، أثناء تصويره حلقة تلفزيونية حول موضوع اغتيال المبدعين في العراق، إذ يجسد شخصية استاذ جامعي يقتله مسلحون مجهولون. لكنه في الواقع، يمثل جزءاً من حياته الشخصية عبر هذا المسلسل، لعل الفرق أنه ما زال يؤديها بنفسه، لأنه اختار الوقت المناسب لينجو، معه «جزء» من عائلته، كما يروي بأسى، بعد خطف نجله الأكبر المحامي وسام وقتله في شهر أيلول (سبتمبر) عام 2007.
يعيش علوان في العاصمة السورية دمشق منذ خروجه من بلاده، بعد تلقيه تهديدات بقتله في العام نفسه، في موازاة موجة من القتل تعرض لها كثر من المبدعين العراقيين، شملت أكاديميين، فنانين، أدباء، رياضيين، علماء، طيارين، كوادر في التخصصات كافة، ما أدى الى هجرة الملايين من العراقيين الى أقطار العالم، إلا أن سورية تعتبر بمنزلة «هوليوود» الفنانين العراقيين وباتت تشكل سياقاً للدراما العراقية التي لم تنقطع.استغلال الألمبسبب الظروف التي يمر بها العراق، تُنتَج النسبة الكبرى من الأعمال الفنية العراقية خارج البلاد، يجتمع معظم الفنانيين العراقيين المقيمين خارج العراق في سورية لتصوير نتاجهم الفني، المدعوم من فضائيات وضعت آلية تنفيذ هذا العمل الفني من خلال المنتج المنفذ. لكن الفنان العراقي، وفقا ً لعلوان، «مغبون مادياً ومضطهد، إذ يجري استغلاله بصورة «فنية»، يعمل لأشهر ويقدم عطاء مثمراً في أدواره، مقابل مبلغ ضئيل جداً ومخجل لا يساوي الجهد المبذول، في حين أن الشخصيات نفسها عندما يقدمها فنانون عرب في بلدانهم، أو كضيوف من بلدان أخرى، تحسب لهم عشرات أضعاف أجور الفنان العراقي».يتحدث بألم عن معاناة الفنانين العراقيين، يقول علوان: «لا يملكون في معظمهم حتى أجرة الشقة السكنية، سواء في الاردن أو سورية، لهذا يوافقون على أجور متدنية ليستمروا في الحياة. تشكل إجراءات الإقامة الثقل الأكبر بعد الغربة، إذ يجري استغلالهم والضغط عليهم من قبل جهات معينة للحصول على الإقامة. كذلك يحتار كثيرون كيف يسددون ثمن وجبات الطعام، حتى مكالماتهم الهاتفية، يغرقون في الديون، خصوصاً مع وجود عائلاتهم معهم، ما أدى إلى إصابة البعض منهم بجلطات دماغية، عجزوا عن دفع فواتير المستشفى، لكن الخيرين من أهلهم في بغداد أو المهجر يحاولون مساعدتهم».نقابة الفنانينلماذا يقبل الفنان العراقي بهذه الأجور المتدنية؟ «بسبب الظروف» يجيب الفنان العراقي طه علوان ثم يضيف بمرارة: «يكون بين المطرقة والسندان، يريد أن يبقى متواصلاً مع المشاهد وتحت الأضواء في الساحة الفنية». يتابع: «كان يمكن لنقابة الفنانين العراقيين أن تساعد، بيد أنها ألغيت في القانون العراقي الجديد. في الفترة الأخيرة، عمد بعض الشرفاء إلى جمع الفنانين العراقيين وإعطاء تسمية جديدة بديلة عن النقابة، هي «اتحاد الفنانين العراقيين»، أسوة بالاتحادات الفنية الموجودة في الدول العربية المجاورة».عن دور السفارة العراقية في دمشق، أكد علوان أن «العاملين فيها هم في غالبيتهم أصدقاء للفنانين العراقيين، لكنهم لا يستطيعون مساعدة هذا الكم الكبير، لا يمكن أن نطلب منهم أكثر من طاقتهم، السفير على تواصل معنا. بدورنا نسعى إلى إيصال صوت الفنان العراقي والتخفيف من معاناته عندما تتاح لنا فرصة لقاء المسؤولين العراقيين الذين يزورون العاصمة السورية بين الحين والآخر».أشاد علوان بالموقف السوري الرسمي والشعبي، لاحتضانه هذا الكم الكبير من العراقيين (نحو مليون ونصف المليون)، خصوصاً أنه البلد الوحيد الذي يستقبل العراقيين من دون سمة دخول «فيزا»، كذلك أثنى على الكوادر السورية التي تقدم خبراتها في التصوير والصوت والاضاءة والتمثيل أيضا، هؤلاء عوامل مهمة في تنفيذ الدراما العراقية. حياة المنافيفي الطبقة الثالثة جلس الفنان العراقي القدير صاحب شاكر، استعداداً لرسم لحية بيضاء على ذقنه ليؤدي مشهدا، يتحدث فيه عن صديقه الذي اغتاله مسلحون، بدا متفائلا، على غير عادة العراقيين هنا، علمت في ما بعد أن السبب هو قبوله مهاجراً إلى الولايات المتحدة الاميركية، وهو أمر كان ينتظره منذ وقت. أشار إلى أنه سئم من حياة المنافي، متنقلاً بين بغداد والمغرب وعمان ودمشق ويريد أن يرتاح أخيراً، «كنت أبحث عن الاستقرار المفقود في العراق، أريد أن أشعر بإنسانيتي من جديد، أؤمن مستقبلا ًجيداً لأولادي».يقطع حديثنا صوت قوي آت من صالون الفيلا: ثلاثة اثنان واحدqueue ، كان صوت المخرج العراقي الكبير أكرم كامل، الذي لم يهدأ طوال أكثر من 12 ساعة، وهو يتابع كل شاردة وواردة قبل التصوير وبعده، يتحرك في كل مكان ويطلق النكات وهو يتابع المشاهد المسجلة مع المسؤولة عن شاشة MONITOR هبة، وهي سيدة هادئة تجلس قبالة شاشة العرض لا تبرحها قبل انتهاء التسجيل، خرجت من العراق بعد إطلاق النار على رأسها ونجاتها بأعجوبة، تقول بتنهيدة خجولة: «خسرت كل شيء في العراق، كل ما عملت من أجله، خرجت لأبدأ من الصفر، ليس العمل مجزيا كثيرا هنا، لكن علي التزامات يجب تسديدها، الحياة يجب أن تستمر».خيوط المحبةتلف المكان مسحة من الحزن على الرغم من الهدوء والانسجام الظاهرين بين كادر العمل، ما ان يؤدي الممثل العراقي دوره حتى يرجع الى هدوء يبدو كالجبل أحيانا، يثقل كاهله، لكن الأمر لا يخلو من قهقهات بين الحين والآخر، تنطلق غالبا من الفنان الكوميدي علي جابر، ينضم إليه الفنانون كريم محسن وطه علوان وصاحب شاكر وبقية الفريق، لكنهم سرعان ما يعودون الى جديتهم حينما تحضر السياسة، التي لا تغيب عن العراقيين بحكم الواقع وتداعياته، يقول الفنان علوان: «كل أعمالنا في الخارج متواصلة مع الصميم العراقي ووجدانه، الشارع، الرصيف، النخلة، والنهرين، تمتد كل الخيوط والقلوب عبر هذه المسافات الطويلة لتلتقي قلوب العراقيين في الداخل».المهم العراقيتركنا علوان لأداء أحد المشاهد حيث يجسد دور استاذ جامعي عراقي هو الدكتور ثامر، في لقاء مع صحافي، يؤدي دوره الفنان كريم محسن، يقول الدكتور ثامر في المشهد: «اغتيال طبيب هو اغتيال لجميع مرضاه، واغتيال أستاذ جامعي هو اغتيال للمعرفة عموما، لكن العراق يبقى»... ربما تصور هذه الكلمات السيناريو العراقي كما يحدث على أرض الواقع، لا سيما إصرار الانسان العراقي على الحياة، على الرغم من الخراب والقتل والإقصاء الذي يتعرض له ، يترجم الفنان العراقي، مهما كان موقعه، هذه المقاومة كأنه يصور الواقع على الشاشة، وهو بالتأكيد قادر على المساهمة في تغيير المشهد العراقي نحو الأفضل.مورفين الحكومةيقول الفنان العراقي طه علوان عن موقف الحكومة لما يحصل للفنان العراقي: «تركت الحكومة كل شيء وركزت على تثبيت الوضع الأمني كمرحلة أولى، لا نعلم متى ستبدأ المرحلة الثانية للاهتمام بتفاصيل حياة العراقيين، أتوقع أنها ستطول، لكثرة المصالح الخاصة في العراق، من قبل كل الأطراف، من الداخل والخارج، لم تتخذ الحكومة أية إجراءات لمساعدة الفنان العراقي، قدمت مجرد وعود أشبه بالمورفين (المخدر)... ولكسب الوقت فحسب». نقل جماعي خلافاً لما يحصل لنظرائهم في أي مكان آخر، لا يحضر الممثلون العراقيون بسياراتهم الخاصة، بل ينتظرون منذ السادسة والنصف صباحاً قدوم حافلة صغيرة، تنقلهم من أماكن مختلفة من العاصمة دمشق وتوصلهم الى مكان التصوير، يضطر بعضهم للبقاء نحو اثنتي عشرة ساعة منتظراً تصوير مشاهده، يتذمرون بهدوء كي لا يخسرون فرصة العمل، التي يتمسكون بها ليس بهدف المال وحسب، بل لأنها تعيد إليهم كينونتهم، بدلاً من انتظار الأمل وسط دخان المقاهي الكئيبة، أو اجتراع الأسى في زوايا الحانات الرتيبة .