القرضاوي وخصومه: من الأمة الدينية إلى الأمة السياسية (2- 5) من الأمة إلى الطائفة

نشر في 02-11-2008
آخر تحديث 02-11-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح كيف حصل أن تطيف الشعور السني رغم طابعه الأكثري؟ الأساس في هذا السياق هزيمة الحركة القومية العربية في عام 1967 ثم الفورة النفطية التي تلت إخفاق الرد العربي على الهزيمة. فمع هزيمة الحركة القومية فقدت الحساسية السنية أي تعبير استقلالي.

جماع القول إذن «ترجع الجريدة، 30- 10- 2008» إن أمة طارق البشري وزميليه أكثر مرونة حيال العالم الحديث وأكثر استيعابا للتمايزات المذهبية الإسلامية وتقليلا من شأنها، وهي تستبطن تاريخ الحركتين الوطنية المصرية والقومية العربية، وما فيهما من عناصر حداثية وعلمانية، تنفتح مبدئيا على غير السني وغير المسلم، وتعادي الغرب كامبريالية أولاً. فيما أمة القرضاوي منكفئة حيال العالم والحداثة، وذات تمركز سني يجعلها أدنى استيعابية بكثير، وتستبطن عداء للحركة القومية العربية أو ريبة شديدة حيالها، وهي لذلك أقرب في الواقع إلى طائفة، جماعة مذهبية أحادية اللون تضيق بالاختلاف عنها، وقد تمضي إلى حد تكفير المختلفين.

وأساس ذلك ربما هو أن التفكير الديني، في أي صورة انتظم، غير مؤهل ليكون إيديولوجية عضوية لبناء أمة معاصرة، أي جماعة بشرية متنوعة الأصول والمناهل، لكنها تضمن المساواة السياسية والحقوقية لجميع مواطنيها. هذا يصح على التفكير الإسلامي السني، بتنويعاته الجهادية المغالية والإخوانية الوسطية، قدر انطباقه على التفكير الشيعي، لكن لعل هذا يستمد ديناميته السياسية الراهنة من كونه مكونا أساسيا لوطنية إيرانية فتية ذات تطلع استقلالي وتوسعي، ومن تهميش عريق للجماعات الشيعية في البلدان العربية، لبنان والعراق، وكذلك البحرين والسعودية.

الفرق إذن بين الشيخ ومنتقديه الثلاثة هو أن «السنية» عندهم، بحكم طابعها الأكثري، وبتأثير ما سبق أن اندرجت فيه من سياقات سياسية وفكرية ومؤسسية استيعابية وحديثة، أضحت أقرب إلى ضرب من الحساسية العامة، التي تتميز بالاعتدال والمنزع الاستقلالي والروح التوحيدية. و«الآخر» الذي تعرف نفسها بالتقابل معه هو كما قلنا «الغرب الاستعماري» أو «أميركا وإسرائيل»، أما أمة الشيخ القرضاوي فلا يبدو أن ثمة «آخر» «ماهوياً» محددا لهويتها: إنها تتمايز في الوقت نفسه عن الغرب كحداثة وسيطرة، وعن التيارات القومية والوطنية العلمانية، وعن الجماعات المذهبية الإسلامية الأخرى، الشيعة خصوصا. وينبغي أن يكون هذا مستغربا. فمن المعلوم أن الإسلام السني لم يكن يعرِّف نفسه تاريخيا إلا بالتمايز عن غير المسلمين، فيما يتحدد الإسلام الشيعي ماهويا بالتمايز عن الإسلام السني (أو «الناصبي»، الأمر الذي يجعل مطالب الشيخ القرضاوي الشيعة بالكف عن شتم الصحابة أو احتكار الإيمان لأنفسهم مساسا بمتن العقيدة الشيعية). وعليه يكون سخط الشيخ من الشيعة تعبيرا عن تدهور الطاقة الاستيعابية للإسلام السني وانكفائه على نفسه كطائفة تصطف إلى جانب غيرها وتنافس غيرها وتغار من غيرها.

لكن كيف حصل أن تطيف الشعور السني رغم طابعه الأكثري؟ الأساس في هذا السياق هزيمة الحركة القومية العربية في عام 1967 ثم الفورة النفطية التي تلت إخفاق الرد العربي على الهزيمة. فمع هزيمة الحركة القومية فقدت الحساسية السنية هذه أي تعبير استقلالي، وتصدرت التعبير عنها المملكة العربية السعودية التي تجمع بين مستوى متدن من الاستقلالية السياسية وهوية تقوم على مذهب تطهري متشدد، فضلا عن ثراء ريعي كبير. وتشهد كل من مصر والمملكة العربية السعودية من جهة، والتنظيمات الإسلامية من الإخوان إلى القاعدة من جهة ثانية، على خسران الحساسية السنية العربية زمام المبادرة التاريخية الذي كان تحقق لها على يد الحركة القومية العربية.

لم تكن القومية العربية سنية، بل كان ما تحقق لها من هيمنة في خمسينيات القرن العشرين وستينياته قد أتاح للإسلام العربي، وهي سني أساسا، الاندراج في تشكيل سياسي وحضاري جديد هو العروبة التي «اخترعتها» الحركة القومية ولم تقطفها من «الطبيعة»، فقد جعلت العرب شعبا «عالم ثالثيا» مناضلا ضد الاستعمار من أجل التحرر وعاملا من أجل وحدته الخاصة ومن أجل العدالة والمساواة والتقدم، شريكا لشعوب «القارات الثلاث»، ورفيق كفاح للفيتناميين والهنود والصينين والأفارقة... ولعل من أخطر نقاط ضعف الحركة القومية العربية أنها لم تضطلع بالطابع المخترع للأمة العربية التي نهضت باسمها.

لقد تصور القوميون العرب، «الشوام» خصوصا أكثر من المصريين، أن العروبة ليست إلا عودة إلى أصل «طبيعي»، إلى «عدنان وقحطان»، إلى «الوليد والرشيد» كما يقول النشيد الوطني السوري، أي ببساطة إلى العرق واللغة. وهي بذلك مهدت الطريق لانهزامها أمام طبيعة أرسخ، تجاهر بطبيعيتها و«أصالتها»: «الإسلام».

انهارت الهيمنة القومية فانفرطت إلى عناصرها، نظم سلطوية استبدادية وشعوب ارتدت إلى جماعات أهلية، دينية ومذهبية وإثنية، وأخذت الفكرة القومية المهجورة ذاتها تبحث عن سند إسلامي «أصيل» لتقف على رجليها.

فالسنية هي أحد عناصر انفراط الحركة القومية العربية وليست أساسها أو جوهرها، ومن ثم فإن القول إن القومية العربية غلالة للانتماء السني غير صحيح. فليست السنية غير عنصر خام في حركة قومية عربية حديثة، تعارضت أحدّ التعارض مع العروبة «الطبيعية» للسعودية مثلا. هذا رغم أن المسلمين السنة العرب كانوا يتماهون بسهولة أكبر مع الحركة القومية العربية، في تنويعتها المصرية خصوصا «الناصريين السوريين... مسلمون سنة في أكثريتهم الساحقة» وأقل في تنويعتها البعثية، التي غدت طاردة للشيعة العراقيين مثلا في سبعينيات القرن العشرين.

وفقدان العالم العربي من ذلك الوقت لقيادة حية هو ما أتاح للشيخ أسامة بن لادن أن يكون قائدا عربيا وإسلاميا كبيرا. لقد صعد أسامة بن لادن لأن جمال عبدالناصر سقط.

* كاتب سوري

back to top