تركيا تعزف... مقام عراق!
عادت أنقره بقوة إلى معادلات المنطقة بعد التعديل الوزاري المحدود الذي أجرته وبمقتضاه ارتقى البروفيسور احمد داود أوغلو، مهندس الانفتاح والعودة التركية إلى الشرق الأوسط وتوازناته، منصب وزير الخارجية.ظهرت لمسات أوغلو الشرق أوسطية بوضوح عندما وجهت أنقره الدعوة إلى السياسي العراقي الشاب مقتدى الصدر لحضور مؤتمر في اسطنبول، وقام رئيس الجمهورية عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان باستقباله رسمياً في خطوة أدهشت الكثير من المراقبين. وتعود الدهشة إلى أن هذه الاستقبالات التركية ترفع رصيد السياسي العراقي الشاب إقليمياً ودولياً، في الوقت الذي يبدو فيه الصدر متحالفاً مع إيران منافس تركيا الإقليمي. وتزداد علامات الاستفهام بملاحظة أن مقتدى الصدر مبتعد عن الأضواء منذ سنتين ويقيم في إيران، ويزيد في الطنبور نغمة أن حظوظ مقتدى الصدر السياسية تقلصت نسبياً في مقابل منافسيه من السياسيين الشيعة، لأن الميليشيا العسكرية التابعة للصدر، «جيش المهدي»، قد تلقت ضربة قاضية على أيدي القوات المشتركة الأميركية والحكومية العراقية قبل سنتين. وبالمقابل فإن الذراع العسكري لمنافسيه من آل الحكيم، أي «فيلق بدر»، قد تم دمجها في وزارة الداخلية –أو العكس إن شئت-، فضمنت حضوراً طويلاً ومتميزاً لـ «مجلس الثورة الإسلامية في العراق» في حصص تقاسم السلطة والثروة في العراق بعد عام 2003.تعلم أنقره أن حضور مقتدى الصدر المنكمش الآن في العراق ليس في وارد الذوبان بكيانات سياسية أو طائفية أكبر حتى مع هزيمة «جيش المهدي»، بل على العكس فإن الانكماش يبدو ظاهرة طارئة من المرجح أن يعود الصدر بعدها إلى توازنات العراق السياسية والطائفية. وفي هذا السياق لا تفوت ملاحظة أن مقتدى يؤسس شعبيته على خليط من الشعارات القومية والوطنية العراقية وليس على أفكار الفيدرالية التي يرفعها منافسوه من آل الحكيم، وهنا بالتحديد خيط اللقاء والتلاقي الصدري مع تركيا المعارضة للفيدرالية في العراق.لذلك كان الاستقبال الرسمي والحفاوة والبحث في مساعدات تركية قادمة لمدينة الصدر، وهو ما من شأنه رفع أسهم مقتدى بين صفوف أنصاره ومعقلهم الأساس: مدينة الصدر. حفظت السمعة العائلية السامقة لآل الصدر (في مقدمتهم الراحلون محمد صادق الصدر ومحمد باقر الصدر) لمقتدى الشاب الحضور في الحياة السياسية والبرلمان العراقيين (عشرة في المئة من مقاعد البرلمان الحالي)، وفي أزقة وحواري مدينة الصدر، بالرغم من القضاء على ذراعه العسكري «جيش المهدي». ويؤمن هذا الحضور السياسي والبرلماني والشعبي وجوداً في الحياة السياسية العراقية سيستمر لفترة مقبلة، تطول أو تقصر، بحسب تحركات مقتدى الصدر ومقتضى الصراع على العراق، وهذه الحقيقة تعني أن مقتدى الصدر يملك رأسمالاً سياسياً لتركيا من خلاله التأثير في توازنات العراق السياسية.ترقى مقتدى بسرعة في سلم الزعامة الصدرية بعد اغتيال والده وأعمامه من قبل النظام السابق، وهذه الزعامة راجعة إلى حقيقة أن تياره واسع الحضور في مدينة الصدر، وإلى الولاء التاريخي للمرجعية العربية لآل الصدر من طرف بطون وأفخاذ العشائر العربية في جنوب العراق عموماً، ومدينة البصرة خصوصاً. وهذا المزج بين تأييد مهمشي مدينة الصدر والعشائر العربية الجنوبية يعطي مروحة تمثيلية واسعة لمقتدى وحركته، والتي وصلت إلى حد التصادم مع مرجعية آية الله العظمى السيد علي السيستاني تلك التي أسماها مقتدى «الحوزة الصامتة»، أي الصامتة على الاحتلال.وكسر السيد مقتدى الصدر في اندفاعه السياسي والعسكري إشارات حمراء، وأعاد بعث التنافس والحساسية التاريخية في العراق بين مراجع المسلمين الشيعة، أي بين مرجعية آل الصدر ومرجعية آل الحكيم.ولكن مقتدى الصدر يكتسب أهميته الكبرى من المنظور التركي بسبب كونه يحجِّم طموحات الأكراد القومية، ومن المعروف أن مسألة بقاء العراق موحداً هي قضية أمن قومي تركي من الطراز الأول. وبالإضافة إلى تخوفاتها من طموحات الأكراد القومية، فإن تركيا تطمح إلى تصدير نفط الموصل عبر أراضيها، وهو ما سيضمن لها دخلاً مالياً ونفوذاً استراتيجياً وسياسياً كبيراً في العراق وتوازناته السياسية. وعلى الناحية المقابلة لا تفوت ملاحظة المهارات والرسائل الإيرانية، حيث مازالت طهران تملك نصيباً كبيراً في حركة مقتدى الصدر، وهنا ينبغي ملاحظة أن الطائرة التي أقلت مقتدى الصدر إلى اسطنبول كانت طائرة إيرانية، وكأن طهران تقول لأنقره أنها مازالت تمسك بالخيوط وأنها مَن يسمح بالزيارة.مازالت إيران هي الطرف الأول الذي «يدوزن» الإيقاع داخل العراق حالياً، وحتى رغبة مقتدى في الحصول على الدرجة العلمية التي تؤهله للمنافسة المذهبية مازالت رهناً باتجاهات وميول حوزة قم. كما أن التقليد الفقهي الشيعي يعطي درجة «آية الله» في سنوات عدة وليس في فترة قصيرة، وبالتالي فالمسافة الزمنية التي تفصل السيد مقتدى الصدر عن طموحه الفقهي تتحدد في قم الإيرانية وليس في اسطنبول أو أنقره أو أي مكان آخر. وبالرغم من كل ذلك لن يكون سهلاً على إيران التعامل مع ملف مقتدى الصدر باعتباره أمراً مقضياً، بل سيتوجب عليها إجراء الحسابات وعقد المقايسات على خلفية الدخول التركي إلى الساحة العراقية.تقدم تركيا درساً بليغاً للدول العربية في الموضوع العراقي، مفاده أن المصالح الوطنية والأدوار الإقليمية تتقدم بأشواط على الاعتبارات الطائفية. تقرأ تركيا المعطيات الجديدة وتتعامل معها بما يخدم مصالحها الوطنية، وهي إذ تقترب من مقتدى الصدر فإنها تتغيا تمديد نفوذها الإقليمي في كامل المنطقة التي تعود إليها بعد عقود طوال ولكن بتصورات حديثة ورؤى تتناسب مع الواقع الجديد. تبدو أنقره الآن مثل عاشق يقف على أطلال بغداد التاريخية مستذكراً مطلع أغنية قديمة، يعرف جيداً لحنها الأساسي والتنويعات عليه. فتركيا تتذكر... مقام عراق!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة.