«جرن الحلبي»

نشر في 29-04-2009
آخر تحديث 29-04-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي «جرن الحلبي» ليس ككل جرون المزارعين المجتهدين، «جرن الحلبي» هو عبارة عن لمامة ناتجة عن التسول، ومع ذلك هو أكبر من جرون الذين كدوا بعرقهم، فيه حبوب مختلفة من قمح وشعير وعدس وحمص، يوحي بثراء لكن محصوله ليس قمحا صافيا يستخدم في صناعة الخبز، بل خليط من البقول لا يستخدم إلا علفا للبهائم أو كـ»بسلة» (تعويذة) ضد الرجفة والمرجفين. وجرن الحلبي هو نظريتي لتوصيف حالة العشوائية والبلطجة التي سادت الثقافة والصحافة في مصر. أكتب هذا المقال استجابة لطلب بعض القراء الذين قرؤوا مقال «ما قال التكروني» وطالبوني بأن أكتب أكثر عن حيوات من يعيشون على هامش الصعيد وربط ذلك بالمجتمع الأكبر.

«الحلب» في الصعيد، أو النَــوَر والغجر، هم من يعيشون على أطراف القرى يعملون في مهن مختلفة كالرقص والغناء وتنظيف البهائم، أو مراسلة، أي قضاء مشاوير، لأصحاب حاجات، فمنهم الغوازي والنوَريات ومنهم عازفو الربابة الذين يدورون على الفلاحين وقت الحصاد يأخذون من هذا قتة «حزمة» قمح ومن ذاك سلة عدس ومن الآخر «كمشة» فول، وهكذا يكوِّنون «جرونهم». ومما يغيظ الزرّاع هو أن «جرن الحلبي» غالبا ما يكون أكبر من جرونهم، وهم الذين كدوا وتعبوا طوال العام، وعندما يأتي وقت الحصاد، تكوم «جرون» القمح بشكل تلمع فيها حبات القمح كما الذهب، ولا يبقى شاذاً بين «الجرون» سوى «جرون» الحلب والغجر، فبينما يكون جرن المزارع الأصيل قمحاً صافياً، يكون «جرن الحلبي» خليطاً من القمح والعدس والفول، «جرون» ليست أصيلة لأنها «لمامة» نتاج ما يجمعه الحلبي نتيجة تسوله، أو ثمنا لخدمات قدمها للزرّاع وتقاضى مقابلها «غلة» في نهاية العام، أو ما نسميه في الصعيد «بالخينة».

وكما هناك حلبي الزراعة، فهناك حلبي الصحافة أيضاً، والطامة الكبرى عندما تكون بدايات حلبي الصحافة في الأصل أنه كان حلبي الزراعة، ولقد كنت متعاطفا معه عندما كان حلبي الزراعة لأنه كان معدماً، أما وقد صار حلبي الصحافة وغدا جرنه كبيرا بما لا يمكن تجاهله، فلا مانع من مواجهته اليوم. حلبي الزراعة في الأمس هو ذاته حلبي الصحافة اليوم، نفس السلوك ونفس الجرون اللمامة. جرون الحلبي زادت عن حدها في الإعلام المصري هذه الأيام، فلدينا صحف لا تختلف أبدا عن جرن الحلبي، تتلقى أموالا من «حزب الله» وإيران وليبيا والسودان، ومن قبل من أموال صدام حسين، وجعلت لها جرنا صحافيا... وما أبعد المسافة الأخلاقية بين صاحب جرن وصاحب «جرنان»، هكذا ينطق جماعتنا كلمة «جورنال» في الصعيد.

كلما تحدثت عن «حزب الله» وعن المال الطاهر (القادم من طهران)، قامت علي صحف الحلب بحملة لتغير الموضوع، فبدلاً من الحديث عن خلايا «حزب الله» تبدأ حملة تشكيك ضدي وضد كل من يتلفظون ولو بكلمة واحدة ضد إيران. إن خلايا «حزب الله» وأموال طهران وأموال وصدام قبلها وأموال ليبيا، وقناتي «المنار» و»العالم» والساعة والولاعة... كلها غلة ملونة في جرن الحلبي، ولو أن حلبي الصحافة يجيد أي لغة أخرى غير العربية لما تردد أن يضع في جرنه أموال أميركا وإسرائيل وغيرهما.

من صفات حلبي المنشأ الذي تطور فأصبح حلبي الصحافة، أنه يحاول الترويج لنفسه خارج القرية أو النجع الذي نشأ فيه، ففي قريته التي تعرف حقيقته لا أمل له وأتحداه أن يرشح نفسه هناك لعضوية مجلس محلي لا لمجلس الشعب، وعندما يريد أن يصفي حساباته مع أحد لا يقول إن فلانا أهانني وسأرد عليه مباشرة، بل يدور في النجع كله مردداً إن فلاناً «سب العمدة وابنه»، بهدف الوقيعة بين خصمه وعمدة القرية، هذه هي حال حلبي الصحافة المصرية الأبرز.

«اللوبي الإيراني» في مصر، بجناحيه السياسي والإرهابي، يستهدف هذه الأيام كل من يحاول كشف مصادر تمويله وارتباطاته بطهران، مستخدماً صحف طهران في مصر التي غدت أكثر امتلاءً باللمامة من «جرون الغجر» في الصعيد.

الحلبي لا يستقوي على المناطحة إلا بوجود سيد يحميه، فكما يكون حلب الصعيد في حماية قبائل العرب والأشراف لأنه إذا نزعت عنهم هذه الحماية استباح الزرّاع دمهم لخساسة سلوكهم وشين أفعالهم، فإن حلبي الصحافة في القاهرة لابد له من كفيل يحميه. الحلبي إذا شب عن الطوق فجر، فلابد من وقفة خصوصاً عندما يكون لهذا الحلبي جنحة أحداث عند الصغر، وقضية تزوير في الكبر. وأتمنى على الكفيل الذي يصور هذا الحلبي أنه في حمايته أن يكشف عنه غطاء الحماية، خصوصاً أن رائحة أموال الحلبي قد زكمت الأنوف.

كان الحلب والغجر يعيشون من دون بطاقات شخصية أو أي صفة قانونية تربطهم بالوطن، ورغم أن الدولة وطَّنت الكثير منهم فإن ذهنية عدم الولاء للوطن التي تميز الغجر مازالت «معششة» فيهم، وبهذا يكون غجر الواقع وغجر الصحافة هم مشكلة الدولة في المقام الأول.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS 

back to top