يحتفل العالم بمرور 200 عام على ولادته نيقولاي غوغول... المضطرب راوي الزيف الاجتماعي في بطرسبرغ
تمر هذا العام ذكرى قرنين على ولادة الكاتب الروسي نيقولاي غوغول، وهو لا يزال يثير الجدل حول أدبه من قصة «الأنف» التي تصنف ضمن «الأدب المسوخي» الغرائبي الى رواية «الأرواح الميتة» والتي قيل إن الكاتب أحرق الجزء الثاني منها، وصولاً الى «المعطف» الذي قال دوستويفسكي ذات يوم إنهم، جميعاً، أي الكتاب الروس، خرجوا منه.
من أين نبدأ في الكتابة عن غوغول الأديب والظاهرة؟ ولد في الأول من أبريل (نيسان) عام 1809 في قرية بانوفشينا الأوكرانية، والتي جعل منها مسرح كتاباته الأولى، ثم انتقل وهو في العشرين الى بطرسبرغ، عاصمة روسيا القديمة. أصابته المدينة بخيبة أمل كبيرة، لأنها كانت بعيدة عن المدينة التي تخيّلها، بتناقضاتها الاجتماعية العميقة ومآسيها الفاجعة وسيطرة الزيف بين سكانها. إنها مدينة البيروقراطية القوية التي كانت تعيش «حداثة التخلّف»، كما يعبّر عن ذلك الكاتب الأميركي مارشال بايرمان في كتابه «كل ما هو صلب يتحوّل الى أثير». حياة غوغول قائمة على التحوّل، ولا تنفصل عن كتاباته ورواياته. بدأ ينشر قصصه القصيرة في بطرسبرغ وسرعان ما أصدرها في كتاب بعنوان «أمسيات في مزرعة ديكانكا»، ثم واصل نشر أعمال لقيت نجاحاً من بينها، مسرحية «المفتش العام» التي يسخر فيها من الحياة في بلدة ريفية روسية، ثم أصدر «شارع نيفسكي» و{يوميات مجنون»، قبل أن ينتقل ليعيش 12 عاماً في أنحاء أوروبية عدة، لا سيما في روما. عام 1848 عاد الى روسيا، وبدأ ثانية بكتابة الجزء الثاني من «الأرواح الميتة»، وانتهى منها عام 1851، لكن لسوء الحظ وقع تحت سطوة أحد رجال الدين المتعصّبين الذي أثّر فيه فحجّ الى الأماكن الدينية الأرثوذكسية، وعاد من تلك الرحلة منهاراً غير مؤمن بجدوى الكتابة، وتواصلت أزمته النفسية. كان رجل الدين يعتبر العمل الأدبي مقيتاً الى الله، فطلب من غوغل إتلاف الجزء الثاني من «الأرواح الميتة»، والتكفير عن إثم كتابته الجزء الأول بالعودة الى الدين. عام 1852 وبعد صراع نفسي مرير، قرر غوغول تنفيذ رغبة رجل الدين، فأحرق الجزء الثاني من روايته، علماً أنه كتب ديواناً شعرياً في العشرين من عمره ووقّعه باسم مستعار، وحين انهالت أقلام النقاد عليه تجريحاً جال في المدينة ليشتري نسخ الكتاب وأحرقها أمام بيته. ولم يعترف بأنه هو المدعو ف. الوف، صاحب الكتاب، إلا بعد نيله الشهرة مع كتاب «الأرواح الميتة». توفي غوغول بعد أن أحرق «الأرواح الميتة» بعشرة أيام واكتُشف بعض مسودات الرواية المذكورة. إنها حياة غوغول القائمة على القلق والاضطراب، وإلى الآن ما زال السجال سارياً حول قضية «الأرواح الميتة»، وقد ترجم موقع «إيلاف» الإلكتروني مقالاً بهذه المناسبة يعرض آراء بعض الكتاب الروس حول الرواية. يعتقد البروفيسور دميتري باك أستاذ الأدب الروسي (متخصص بأدب القرنين التاسع عشر والعشرين) أنه ما زال على الباحثين الكشف عن ألغاز كثيرة حول حياة غوغول ودراستها. يقول باك: «درس الخبراء تراث غوغول بأكمله، وعلماء القرن التاسع أمثال نيقولاي تيخونرافوف ساهموا بقسط كبير بهذا العمل». لكنه يرى أن مصير الجزء الثاني من «الأرواح الميتة» ما زال غامضاً. على أن سر غوغول الرئيس لا يكمن في حرق مخطوطة الجزء الثاني. فبرأي باك، الأمر الجوهري يكمن في عدم نضوب أعمال الأديب، لأنها متعددة التفسيرات ولهذا فإن كل جيل جديد يقرأها بطريقته الخاصة، مكتشفاً أفكاراً جديدة غير متوقعة. يضيف باك: «مثلاً، ولسبب معروف، لم يجرِ في العهد السوفياتي اهتمام كافٍ بتدينية غوغول نفسه ولا بمشكلات العقائد الدينية في أعماله». وتحدث باك أيضاً عن أن غوغول كان بالإضافة الى موهبته كأديب، ممثلاً كوميدياً عبقرياً، اشتهر بحركات الوجه. وكتب أعمالاً خاصة عن خدمات الكنيسة، من بينها: «تأملات في الخدمة الكهنوتيّة في السماء (ليتورغيا)».الأنف قصة «الأنف» من أجمل ما كتب غوغول، ولا تنفصل عن مناخ الزيف الذي كان سائداً في بطرسبرغ، ولا عن مناخ غوغول وعذاباته وأزماته. يستيقظ كوفاليف (بطل القصة) ليكتشف أن أنفه تلاشى خلال الليل، تاركاً رقعة رقيقة في وسط وجهه. يترك الأنف صاحبه ويروح يتجوّل في المدينة مرتدياً بدلة رسمية محبوكة بخيوط ذهبية. يستأجر عربة كي يتفرج على أرجاء المدينة، يقابل الناس، ينحني أمام النبلاء ويصلّي في الكنيسة، ويعتقله رجال الشرطة عندما يهمّ بمغادرة المدينة والذهاب إلى ريغا بجواز سفر حكومي. يستغرب كوفاليف مشهد أنفه وهو يخرج من البيت، فيما هو يلاحقه ليعيده الى مكانه الى أن يتمكن من الاتفاق معه لإجراء مناقشة. لكن حين يقدّم البطل اقتراحه نجد الأنف يستعيد طبيعته ويخاطب سيده مخطّئا إياه قائلاً له: «أنا نفسي». العقيد كوفاليف، صاحب الأنف، يظهر في القصة في وقت متأخر. أنفه يسبقه في الظهور على مسرح الأحداث. يقول البطل: «يا إلهي، ما الذي فعلته كي أستحق هذا كله، لو فقدت ذراعاً أو ساقاً، لكان الأمر أفضل، أو حتى لو فقدت أذني سيكون الأمر صعباً، لكنه محتمل، لكنّ رجلاً بلا أنف لا يساوي شيئاً». الأنف كناية عن هؤلاء الفاسدين المتشردين في المجتمع. حين يفقد البطل المزيف أنفه، يشعر أنه فقد جزءاً مهمّاً من «عدة الشغل»، وهي التملّق والتظاهر والادعاء والتزلف، فيتحوّل مخلوقاً فاقد الثقة، وحين يعود إليه أنفه يرجع الى سابق عهده، بينما الأنف حين يرتدي زياً محترماً يتنكر في هيئة مستشار دولة، ويتظاهر ويدّعي. يسأل غوغول: «لماذا يختار المؤلفون مواضيع كالمسوخ لقصصهم؟ أنا مضطر للاعتراف بأنني لا أستطيع تفسير ذلك، لكن الأمور الغريبة تحدث في كل وقت، وعلينا الاعتراف بأن هناك شيئاً ما وراء هذا كله، أليس كذلك؟» شيء ما يمثل وراء كل أدب هكذا يقول غوغول. ويذكر أن الرواية في رأي كثيرين ملحمة العصر الحديث.يشار الى أن منظمة اليونسكو أعلنت عام 2009 عام غوغول، نظراً إلى أن دولاً كثيرة ستحتفل في الأول من أبريل (نيسان) المقبل بمرور 200 عام على ميلاد كلاسيكي الأدب الروسي.