من المستفيد؟

نشر في 24-12-2008
آخر تحديث 24-12-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي كلما وقعت حادثة حار العرب في تفسيرها، كان الكثيرون منا يبحثون فيمن وراءها من خلال سؤال وحيد هو: ابحث عن المستفيد... من المستفيد؟ سؤال أطلقه الكثير بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبعد اغتيال الحريري، وبعد موت أشرف مروان، وبعد موت ياسر عرفات، إلى آخر قائمة الأحداث الكبرى والمربكة. من المستفيد؟ كان دائما هو السؤال. فلماذا يا ترى لا نطرح السؤال نفسه في موضوع «جزمة» منتظر الزيدي التي ألقى بفردتيها في وجه جورج بوش؟ واقعة الجزمة جاءت مباشرة بعد أن وقع الرئيس الأميركي جورج بوش مع نوري المالكي رئيس وزراء العراق، اتفاقية أمنية حول بقاء القوات الأميركية في العراق، تعد من أخطر معاهدات الأمن الإقليمي وأكثرها ظلما، لكن العراقيين، ومعهم العرب بشرا وشاشات تلفزيونية، تركوا قضية الأمن الخطيرة وانشغلوا «بجزمة» الزيدي.

ولو كان الإنسان جنيا أو شيطانا سفليا طلب منه أن يخطط لشيء يلهي العرب والعراقيين بعرض جانبي بحيث لا يتحدثون في موضوع الاتفاقية الأمنية بين بلادهم والولايات المتحدة، لما خطر على باله شيئا أكثر حنكة من موضوع «الجزمة».

«الجزمة» سيطرت على حوارات العرب، ونسوا أن العراق قد تورط في اتفاقية أمنية مجحفة! تظاهر العرب لـ«الجزمة»، ونسوا الأمن الإقليمي. لست من هواة نظرية المؤامرة، ولكن هل كان موضوع «الجزمة» للإلهاء؟ وهل كانت الضجة المصاحبة له في التلفزيونات العربية كلها من صنيعة الـ«سي آي إيه»، حتى أسكرتنا قصة «الجزمة» ولم ننطق بكلمة واحدة عن موضوع الاتفاقية الأمنية؟

ابحث عن المستفيد.. لنطرح السؤال نفسه في موضوع «الجزمة» ترى من المستفيد عندما يغرق العرب في حوار «الجزم»، ولا تناقش قضية الاتفاقية الأمنية التي وقعها جورج بوش مع نوري المالكي، ولو بكلمة واحدة في السبعمئة فضائية التي تملأ سموات العالم العربي وغرف نومه ومعيشته؟ لماذا لم نتلفظ، ولو بكلمة واحدة، في موضوع يخص خضوع العراق للسيطرة الأميركية ولمدة مئة عام قادمة، كما قال في السابق المرشح الجمهوري للرئاسة جون ماكين؟ من المستفيد من هذا الصمت عن الاتفاقية، والرقص والهتاف لـ«الجزمة»؟

كثر الحديث عن «الجزمة» حتى من أعتى المثقفين المتنورين من العرب، وتحدث بعضهم عن الثأر لكرامة العرب، والبعض الآخر ناقش «الجزمة» كرمزية للجرح العربي الغائر ودوامة البحث عن البطل. تحدث البعض عن أن الزيدي رمز لشرف النضال، وتحدث آخرون على أنه رمز لانحطاط مهنة الصحافة التي استبدلت إلقاء الأسئلة بإلقاء «الجزم». الحالة العربية تحتاج إلى كل هذه الحوارات، ولكن عندما يكون هناك حدث مهم مثل تكبيل بلد عربي محوري كالعراق باتفاقية أمنية تجعله تحت احتلال مستديم ومقنن لمدة مئة عام أخرى، وتجعل الأميركيين في العراق لا يحاسبون حسب القانون العراقي، إنما حسب القانون الأميركي، فكيف يمكن وقتئذ فهم انشغال الصحافة العربية عن تسليط الضوء على هذه الاتفاقية، والغرق في موضوع «الجزمة» والبطولات الزائفة؟ لا يتوقع من صحافيين مخضرمين أن يكونوا بهذه السذاجة، بدوا وكأنهم مازالوا طلابا في الجامعات من هواة المظاهرات في أوائل العشرينيات من أعمارهم، تحركهم النزوات والهرمونات، حركتهم «الجزمة» ولم تحركهم الاتفاقية الأمنية.

تركت العالم العربي منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عاما، وفي ذاكرتي قادة الحركات الطلابية في تلك الفترة، الذين أصبح بعضهم اليوم قادة معارضة وقادة أحزاب أو رؤساء تحرير صحف أو أعضاء في البرلمانات المختلفة. وإلى اليوم، لا أجد نضجا واضحا يميز بين ما كان يفعله هؤلاء الصبية أيام كانوا في الحركات الطلابية، وما يفعلونه اليوم، الهتافات نفسها والسذاجة نفسها. لا شيء تغير، أو كما يقول المثل الفرنسي، «كلما تغيرت الأشياء اقتربت مما كانت عليه أصلا».

الأقلام العربية بمعظمها، الفضائيات العربية كلها، الصحف العربية بكل صفحاتها الأولى والتفاصيل الملحقة، ردود فعل القراء والمشاهدين العرب، رجل الشارع العربي، المثقف العربي، منتديات الإنترنت، نكات الموبايلات... كلهم أخذتهم سكرة «الجزمة» ونسوا الأخطر والأهم: الاتفاقية التي تمس سيادة العراق ومصالحه... وبتواطؤ عجيب لا بسذاجة بريئة، الإعلام الغربي كله أيضا طبل وزمر لـ«الجزمة»، ولم يأت على ذكر الاتفاقية إلا كخلفية لحدث رمي الحذاء. تجاهل أحار في تفسيره، ولا أملك إلا أن أقول كما كان يقول الكثيرون منا عندما يحارون في تفسير حدث ما، فيبحثون فيمن وراءه من خلال سؤال وحيد هو: ابحث عن المستفيد. من المستفيد؟

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top