فن الكسرة: إيجاز رشيق من الحكمة (1-2)
الكسرة فن من الفنون الشعرية والغنائية الشعبية المعروفة في منطقة ما بين الحرمين الشريفين، وما جاورها من المناطق المحاذية للبحر الأحمر من شاطئه الشرقي، وقد تجاوزت اليوم هذا الموطن وانتشرت في كثير من أنحاء الجزيرة العربية بل وخارجها. وهي فن شعري بما للشعر من تقنيات فنية، وأساليب بلاغية، ومحتوى يعبر عن رؤية إنسانية، وهي فن غنائي له تموجات وتكسرات تتراوح بين المد والقصر، والتفخيم واللين، تكاد توهم المستمع بتعدد الألحان، لكنها -في الواقع- تنويع في الأداء للحن الواحد، وتجسيد لمرونة لحن الكسرة، ومؤشر إلى موطن الغناء، وقد يكون في المنطقة الواحدة أصوات عديدة لغناء الكسرة يطلقون عليها ألحانا، أما الكسرة فهي الروح التي تُحاط بهذه الهالة من الإيقاع والغناء.
تتكون الكسرة من بيتين لا ثالث لهما، ويتكون كل بيت من غصنين، صدر وعجز، بمعنى أن الكسرة تقوم على أربعة أغصان أي أركان، وبمعنى أصح أعمدة، ولابد أن تكون هذه الأعمدة متينة ومتناسقة من حيث التكوين قوة والتلوين إبداعاً، لتقوى على حمل المعنى أو المضمون الذي تحتويه الكسرة. وللكسرة قافيتان الأولى للصدر والأخرى للعجز، وكل قافية منهما تختلف عن الأخرى لتشكيل الإيقاع، وتتميز الكسرة بما تتميز به المثينيات (الدوبيت) ورباعيات البيتين (الخيام) من تكثيف وإيجاز وتركز على فكرة واحدة تقوم في صياغة مشوقة ومثيرة، تجلوها النهاية في عجز البيت الثاني. هكذا تشكل الكسرة لوناً شعرياً مستقلاً تتميز به بين ألوان الشعر الأخرى من حداء ومجرور ومجالسي ورد وغير ذلك، وما أخطأ من قال:عيا الأمل يكتمل في فن معناه موزون في سطرينمثل الذهب يارباة الفن وإن زاد عنها تُحول العينومن الكسرات المشكلة لهذا التكوين قول الشاعر:الله أكبر لقيت الود قاعد على الدرب قوْمانييستسْلب الروح مزح بجد ويردها للجهل ثاني وقول آخر:برمجت في الحاسب الآلي دقات قلبي وآهاتهما كان يخطر على بالي اللي ظهر لي في شاشاتهوقول آخر:ليتك معي حاضر القالة يوم الموادع وضيق الخلقوالله يا كنت في حالة يُرثى لها والعدو يرقوأخيراً:صدر حكم مركز التحقيق في صالحي والخصم يسمعولما أتى موعد التطبيق تغيب مهندس الموقعونلاحظ في هذه النماذج من الكسرات الإيجاز والتركيز وعدم التكرار، وتفرد كل غصن بعـلاقة ورابطـــة تشـده إلى الأغصـان الأخـرى، ونجد في الأغصـان الثلاثة الأولى العـرض والتصـوير، لكن الكسرة لا تكتمل بهذه الأغصان الثلاثة بل إنها تَشُدُّ إلى الغصن الرابع -الذي يعد سؤالاً أو إجابة أو عقدة أو انفساحاً- فتكون الدهشة أو المفاجأة ردة فعل للقارئ أو المستمع ترده إلى تأمل العرض والتصوير ثم التفكير في الآتي.وهذا ما يجعـل الكسرة معشـوقة... ومتميزة... ولا تحتمـل أكثر من فكرة، إنها برقية بين الرسائل إيجازاً، والحكمة والمثل بين المواعظ والتذكير دقة، والتوقيع بين القرارات صرامة، والرشاقة بين العبارات رقة وحركة، إيجاز لا يخل بالمعنى، ولا يقصر من دون الإيضاح، وهي كما قال الشاعر مخضور المجنوني:اللي تميز به الكسرات عما سواها من المنظومأغصانها شبه توقيعات حاكم يوجه بها محكوموالإيجاز من سنن الأدب، قالت ابنة الحطيئة لأبيها «ما بال قصارك أكثر من طوالك؟ قال «لأنها في الآذان أولج، وبالأفواه أعلق». وسُئل الزبعري عن سبب قصر أشعاره فقال «لأن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل».***وإذا كان النقد الفني من المقومات والأسس التي تميز الكلام من عموميته إلى أدبيته، فإن الكسرة من الأعمال الإبداعية الشعرية التي تخضع لمعايير النقد الفني والجمالي، فقد ظهر بين شعرائها من يطلقون عليه «المثمن»، وهو الناقد الذي يرجع إليه في الحكم على جودة الكسرة من ضعفها، وإذا ما اختلف الشعراء بشأن قضية فنية في الكسرة فإن المثمن يفصل بينهم، ويكون حكمه مقبولاً، وإلى ذلك يشير شاعر اليوم حين قال:القيل ما عاد في كاره غاب المثمّن وصار يلمواللي ادعى القيل مشواره قصير مهما نشر واهتم ***وفي مجال أدبيات الكسرة، واحترام منازلاتها وحواراتها في أوساط الكسرة، قال الشاعر صالح بن حماد:شكيت أنا من الهوى موزوم أبغى اتفكك من انشابهيوم اتكلم وانا مظلوم زايد عليّه تلهابهفأجابه مستهتراً الشاعر ابن مدهون:هذا فخر والفخر للروم والنقص في كيس من جابهحصلّت لك في زمانك بوم وتحسب الناس تشقى بهولما كان «ابن حماد» جاداً في طرحه، «وابن مدهون» غير جاد في الرد، حيث نظر إلى «ابن حماد» البدوي نظرة الحضري إلى البدوي، ولم ينظر إلى الندية الشعرية، مما حدا بـ«ابن حماد» إلى الاعتراض وعدم قبول الرد، ولما كان كل من الشاعرين يقود فريقاً في المحاورة فقد منع «ابن حماد» فريقه أن يردد كسرة «ابن مدهون» احتجاجاً على هزليتها، فما كان من «ابن مدهون» إلا أن يقبل الاحتجاج مقدراً «ابن حماد» ومعتذراً إليه قائلاً:لا تلومني خاطري مغموم سلطان عقلي شمخ نابهانا احسب ان الحلاوة تدوم أمراً حدث ما علمنا بهولابن حماد مواقف مشهورة في ميدان الرديح، فقد ذهب ذات مرة إلى تعجيز شاعر كبير (المجيدير) في القافية باعتماد لزوم ما لا يلزم في القافية، فقال:يا الله يا ابا الفرج والغيث يامِشْقى الدار لا عطشتتجيبها في عَجَل لحيث لحيث روحي معه لبشتفما كان من «المجيدير» وهو الشاعر المجيد المتمكن إلا أن يطلب تغيير، فامتنع «ابن حماد» عن التغيير وأصر على موقفه، فانصرف «المجيدير» من الميدان.لم يكن «المجيدير» مخطئاً في طلب التغيير، إذ الشاعر لا تعجزه القافية، ولكن ملتقيات الرديح وهو من ميادين الرد في الكسرة تتطلب الانفساح لا التعقيد الذي يفسد انسياب المحاورة، ويسبب إطالة التفكير وتأخر الرد، وملل المرددين من التكرار، أو إحراج الشعراء المتحاورين، فالمسألة ليست تعجيزاً لفظياً، لكنها رياضة فكرية. ***وفي التغطية والتعمية الأدبية أو استخدام الرمز، وهو ما يرجع إليه الشاعر للحيلة، حينما يمتلكه الابداع وتحول محاذير اجتماعية دون التصريح والافصاح، فإنه يعول على الرمز مستخدماً بعض القرائن والنماذج عبوراً إلى إيصال معناه وإطلاق طاقته الفكرية التي لا يقوى على حبسها.ومن ذلك أن شاعراً مسناً كان يمتلك داراً واسعة في قرية معظم سكانها من أقاربه، فقام بتأجير الدار لتكون مدرسة للبنات، وكان بناؤها قديماً مما يتطلب الصيانة المتواصلة، وكثيراً ما استدعاه حارس المدرسة التي تتكون هيئتها التعليمية من جنسيات عربية عديدة، وربما اضطرت المديرة لحرصها إلى أن تقف مع البواب والمالك وهما من المتقدمين في السن ومن أهل الورع والثقة، وبطبيعة الحال لم تكن العلاقات بين هؤلاء المغتربات والمديرة على ما يرام، وعند مغادرة المالك احتجت احدى المدرسات على دخول الرجل المدرسة وسرعان ما انتشر خبر الاحتجاج ومبرراته وبلغ أحد الشعراء من أصدقاء المالك فانتهز المناسبة وقال مداعباً المالك:دولة شَكَتْ من عضو زايد في مجلس الأمن حط امضاهلا هو محامي ولا شاهد ولا هو حكم والحكم ينصاهثم أضاف:لاجل ايش حوَّم مع القايد وفي مكتبه جلّسه واقراه والآن قل لي عن الرايد وافيدني عن سبب دعواه فما كان من المالك إلا أن أجاب:اللي اشتكى صلف وملاهد يبغى يتريّس على مولاهوحلف الكومنولث ما يساند تحرك اسطولهم وارساهويفسر الشاعر احتجاج المدرسة ليس على دخول الرجل، إنما نكاية في المديرة، إلا أن قوة المديرة وصلابتها ونزاهتها لم تحقق نتيجة إيجابية لمصلحة الاحتجاج وحلف الكومنولث المؤلف من المدرسات الأخريات من متعددات الجنسية.