الزمـــان والدهـــر

نشر في 13-10-2008
آخر تحديث 13-10-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي من مفاهيم الزمان الواردة في القرآن الكريم بالإضافة إلى القرن «الدهر»، ولم يرد اللفظ إلا مرتين، الأولى بالمعنى المادي الذي فهمه الأفغاني في «الرد على الدهريين» أي المنكرين لله والذين يجعلون الدهر أي الزمان والتاريخ والطبيعة والمادة تأخذ صفات الله وتقوم بأفعاله، ومنها الخلق والبعث، الحياة والممات، «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ». فالدهرية بهذا المعنى إنكار للعلية في الخلق وللغائية في البعث، أي إنكار لبداية الدهر ونهايته، وجعله ممتدا في الزمان بلا بداية ولا نهاية، وبالتالي مشاركة الله في صفاته السرمدية. والثانية بمعنى خلق الإنسان بعد خلق الكون، وأن خلق الكون سابق على خلق الإنسان، وأن الإنسان آخر ما خلق الله حتى يجد مكانا يعيش فيه، وعالما يعمل فيه «هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا».

وتكمل السنّة وتفصّل ما تركه الكتاب مجملا. فقد ورد اللفظ في السنّة حوالي خمس عشرة مرة بسبعة معانٍ مختلفة.

الأول الله هو الدهر، وأن سبّ الدهر هو سبّ لله كما جاء في الحديث «قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار». فالله هو الخالق والمعيد وليس الدهر. وفي حديث آخر «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر». وقد أوله نجيب محفوظ على لسان أحد أبطال رواياته «لا تسبوا الله فإن الله هو الدولة» نظراً لأن الدولة في عصرنا تقوم بأفعال الله، تحيى وتميت، ترزق وتمنع، تهدي وتضل. وهو الرازق والمعطي « لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر». وهو المعنى الذي يقصده الدهريون طبقا لفهم الأفغاني.

والثانى الهلاك في الدهر أي في الزمان «حمراء الشدقين هلكت في الدهر» أي أن الحياة التي بانت عليها تنتهى بالهلاك. وهو مصير العجوز أي نهاية العمر «تقول عجوز لنا دهرية». وهو المعنى الشعبي لكلمة «الزمن» وكما ورد في تمثيلية «ليالي الحلمية» في مقدمتها الغنائية «وإيه يفيد الزمن».

والثالث آخر الدنيا أو آخر الحياة قبل البعث، وآخر لحظة في العمر. وأحيانا يمتد الزمن مجازا إلى ما بعد الموت أي البعث وبداية الحياة الأخرى «أف له من شراب آخر الدهر» وهو الغسلين الذي يشرب منه الكافرون. فالدهر هو زمان الكون وزمان الإنسان في آن واحد.

والرابع تجزئة الدهر إلى أيام وفترات زمانية «يوما من الدهر». فالدهر في نفس الوقت هو كل الزمان وجزؤه، الزمان كله ويوم فيه. يطول أو يقصر «فمكث فيهم دهرا طويلا». وهو المعنى الوارد في بعض التعبيرات الشعبية مثل «لم أره منذ دهر» أي منذ وقت طويل «مرت عليّ الأيام دهرا» تعبيرا عن طول المدة والملل من الوقت.

والخامس، الدهر وقت لتبليغ الرسالة وحمل الأمانة، والكد والكفاح والسعي فيه «هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر». وتظل الرسالة قائمة للتبليغ حتى لو لم يبق من الدهر إلا يوم واحد «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا». فالدهر ليس وقتا صامتا بل هو منبر للوعي، ومكان له. وتتم الكفارات فيه «كفارة لما قبلها وذلك الدهر كله».

والسادس، طريقة التعبير عن جمود النساء مهما أحسن الرجال إليهن «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر». وهو ما يتهم به الحدثيون الفكر الإسلامي القديم بالذكورية نظراً لوضع المرأة في المجتمع العربي الجاهلي. ويتم تأصيل ذلك في قصة حواء ومسؤوليتها عن غواية آدم. فهي التي غوت وأوقعت آدم وأخرجته من الجنة. ثم يمد الخيال الشعبي ذلك ويدفعه نحو المطلق فيجعل حواء رمزا للغدر والخيانة «ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر».

والسابع وقت الصوم ليس الدهر كله «ولم يطعم الدهر شيئا» ولا ثلثيه «صوم ثلثي الدهر» بل نصفه «لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر» فلا رهبانية في الإسلام، ولا اعتكاف ولا زهد زائدا قد يصل إلى حد الغرور أو النفاق.

الدهر مفهوم فلسفي وليس مفهوما شعبيا مثل الزمن بمعنى الدهر، وإن كان الدهر يعني كل الزمان فإن الله هو كل الزمان، لا أول له ولا آخر، وأحيانا يعني الزمن في الثقافة الشعبية القدر والتاريخ والمصير، وهو حتمي لا فكاك منه. يخضع له الكبير والصغير، البطل والعامي، يتضمن حكمة الشعوب التي يتأسى بها الناس ويجعلونها نبراسا لحياتهم.

الحس الشعبي مع مفاهيم أخرى للزمان أكثر تداولا مثل الساعة والوقت، واليوم والسنة، والآن والحين أي تقاسيم الزمن وإيقاعه الإنساني في الأفعال قبل أن يتماهى مع المفاهيم الجغرافية للزمان مثل الشروق والغروب، والليل والنهار، والضحى والعصر. وقد أقسم الله بها لبيان أهميتها، فالزمن حياة الإنسان، وعمر الكون.

وربما لا يوجد مثل هذا المفهوم «الدهر» في اللغات الأجنبية وفي الثقافة الغربية. هناك فقط مفاهيم الزمان والخلود وباقي المفاهيم الجغرافية الحسية المرتبطة بدوران الأرض. «الدهر» مفهوم ميتافيزيقي وليس مفهوما شعبيا، لذلك عرضه المتكلمون والفلاسفة ورفضوه باعتباره البديل عن الله، والله لا مثيل له ولا شبيه.

* كاتب ومفكر مصري

back to top