ع الآخر

نشر في 22-10-2008
آخر تحديث 22-10-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي كنت أتحدث مع صديق في شأن العلاقات المصرية الأميركية، وهو أمر أدعي معرفته بحكم دراستي للسياسة كعلم وحكم معيشتي في أميركا لأكثر من عشرين عاما، ومع ذلك نظر إلي صاحبي الذي لم يغادر القاهرة إلى الغرب أبداً ولا يعرف أيا من اللغات الحية، قائلا: «الحكاية مش كده». ولم يكن صديقي هذا الوحيد في ذلك، فكلما حدثت أحدهم في موضوع، رفع سقف الحوار إلى درجة أعلى، مؤكداً لك أنك «مش فاهم»، وأن لديه أصل الحكاية قائلاً لك «الحكاية مش كدة». بدا المجتمع المصري بالنسبة لي على أنه مجتمع «ماكسمالست» (مجتمع الحد الأقصى، كل شيء ع الآخر)، التلفزيون على الآخر، والراديو «ع الآخر»، مجتمع موسيقاه صاخبة «ع الآخر»، وأكله «مشطشط ع الآخر»، كل شيء مفتوح إلى أعلى درجة «ع الآخر»، فلا تحدث مصريا في شيء إلا وأخذك إلى الآخر، ربما من هنا جاءت عبارة «هات من الآخر»، لمعرفة، ليس نهاية الموضوع، إنما نهاية الآخر «اللي» عندك.

لا يكتفي بعض المصريين بالحقيقة فقط، وكثير من العرب مثلنا أيضا، مع أن الحقيقة كما هي قد تكون مبهرة، لكن جماعتنا يفضلون الزيادة والبهارات عليها، فمثلا قرأت مقالا مطولا لكاتب يعتذر فيه لقرائه عن غيابه لأنه كان مدعواً لمؤتمر نظمه الكونغرس الأميركي في باريس. تاريخيا لم ينظم الكونغرس الأميركي أي مؤتمر لا في باريس ولا حتى في واشنطن ذاتها، الكونغرس يدعو الباحثين للحديث أمام لجانه المختلفة، لجان رئيسة كانت أو فرعية، فمثلا دعيت أكثر من مرة للإدلاء بشاهدتي أمام لجنة العلاقات الخارجية، ومجموعة استقصاء أحداث الحادي عشر من سبتمبر. هذا ما يعرفه العالم عن الكونغرس الأميركي، أما أن يقول صاحبنا أنه كان جزءا من مؤتمر عقده الكونغرس الأميركي في باريس، في وقت يغرق فيه الكونغرس في مناقشات الوضع المالي الأميركي المعقد، وفي لجانه المختلفة وفي التزام أعضائه بالترويج لمرشحيهما للرئاسة، الجمهوريون يتحدثون نيابة عن جون ماكين بينما يروج الديمقراطيون لباراك أوباما. من الجائز أن أحد المعاهد، مثل معهد أسبن، دعا بعض أعضاء الكونغرس إلى باريس، ومن الممكن أنه أعد لهم جدولا أكاديميا إضافة إلى الترفيه ليستمع فيها ثلاثة أو أربعة من أعضاء الكونغرس المدعوين لوجهات نظر بعض الباحثين.

كان من الممكن أن يقول صاحبنا إنه حضر حدث صغير مثل هذا، ويكتفي، لكننا كعرب لا نكتفي بالحقيقة، لا بد أن ندفع الموضوع للآخر، لا يكفي أن تكون قد تحدثت لبعض أعضاء الكونغرس، بل لا بد أن تكون جزءا من مؤتمر نظمه الكونغرس، موحيا للقارئ أنك لست أقل من ملك الأردن الذي ألقى خطابا في الكونغرس أخيرا، لست أقل من الملوك والرؤساء الذين يزورون واشنطن. لماذا يلجأ حتى المتعلمون من العرب إلى المبالغة، وكأن الحقيقة لا تكفي؟

زبون آخر، رئيس تحرير صحيفة عربية لا تنشر إعلانات، قال لأصحابه إنه ذاهب إلى واشنطن لإلقاء شهادة في الكونغرس، والحقيقة هي أن صاحبنا ذهب إلى واشنطن بدعوة من باحث في مؤسسة أميركية محدودة السمعة للحديث عن لقائه بأسامة بن لادن. ومن المعروف في واشنطن أن الكونغرس يؤجر بعض الغرف في مبناه للمؤسسات المختلفة لتقيم ندوة، غالبا ما تتسع الغرفة المؤجرة لثلاثين شخصا بحد أقصى، وتلجأ المؤسسات غير المعروفة إلى تلك الحيلة من أجل العلاقات العامة، فبالبفعل يمكنها أن تقول إنها عقدت مؤتمرا في الكونغرس من دون أن تقول لنا الحقيقة، وهي أنها كمؤسسة استأجرت غرفة في واحدة من مبان الكونغرس التي تتناثر عبر شوارع العاصمة واشنطن دي سي. ليس كذبا خالصا أن يقول صاحبنا إنه تحدث في الكونغرس، ولكن الحقيقية أنه لم يتحدث لأعضاء الكونغرس، بل تحدث في غرفة جانبية في مبنى الكونغرس وسمعه عشرون فردا. ولو أن صاحبنا قال الحقيقة كما هي، بأن مؤسسة «إعلانية» دعته لحضور حلقة نقاش حول تنظيم القاعدة في واشنطن، لكان هذا كافيا ومقنعا، لكنه مثل كثير من العرب اليوم يستمرئون الكذب ويفضلونه على قول الحقيقة، كذب لا بد له أن يتمدد إلى أقصى نقطة «ع الآخر»، لأن صاحبنا جزء من مجتمع «ماكسمالست» (مجتمع الحد الأقصى، كل شيء «ع الآخر»)، التلفزيون على الآخر، والراديو «ع الآخر»، وأكله «مشطشط ع الآخر»، كل شيء مفتوح إلى أعلى درجة، حتى الكذب «ع الآخر».

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top