الإجماع سبب للفتنة

نشر في 28-05-2008
آخر تحديث 28-05-2008 | 00:00
 بلال خبيز

كانت فرحة اللبنانيين يوم إعلان اتفاق الدوحة فرحتين: فرحة الاقتصاد اللبناني من تحرره من احتلال المعتصمين، وفرحة انتخاب الرئيس. ليس لأن في تحقق هذين الإنجازين، على أهميتهما، إنهاء لأسباب الأزمة اللبنانية، بل لأن إنجازهما يعني تجاوز اللبنانيين هذا النوع من أعراض الأزمة.

كان اللبنانيون مجمعين على اسم الرئيس العتيد الجنرال ميشال سليمان، وكذا العرب والمجتمع الدولي عموماً. لكنهم احتاجوا للعمل بمقتضى هذا الإجماع إلى تعطيل مؤسسات البلد شهوراً طويلة والخوض في غمار حرب أهلية قضت باجتياح بيروت من قبل قوى المعارضة المسلحة. وانهماماً دولياً وعربياً بالوضع اللبناني، وإنجاز اتفاق في الدوحة بعد مفاوضات شاقة وعسيرة رافقها الكثير من الإحباط والتوترات.

هكذا يجيد اللبنانيون التعامل مع أزماتهم على نحو يجعل من المتفق عليه سبباً لشرخ أهلي لا يلتحم، الأمر الذي يجعل التفكر في ما ستؤول إليه المواضيع الخلافية بين اللبنانيين من ويلات وكوارث تعصى على المخيلة.

بعض المتابعين للأوضاع اللبنانية اعتبر أن ممثلي القوى السياسية اللبنانية أنجزوا اتفاق الدوحة تحت ضغط رهبتهم من الدخول في طريق الحرب الأهلية من دون إمكان للرجوع عنها. وأن اللبنانيين الذين اكتووا بنار الحرب السابقة حالوا دون الدخول في حرب جديدة. ولا أحسب أن غير اللبناني يستطيع أن يصدق حلول هذه الحال بين اللبنانيين، ذلك أن اللبنانيين حقاً يفتشون بحمية عن أسباب لتجنب الدخول في قاع هذه الحرب، لكنهم من ناحية ثانية يرفضون التلاقي في ما بينهم. بل إن الآلام التي عاناها اللبنانيون طوال أعوام الحرب الأهلية لم توحدهم على ما يقول بعض المفكرين اللبنانيين، بل جعلت من الفئات اللبنانية أقل استعداداً للاختلاط والتمازج وأكثر إصراراً على التقسيم الذي أرسته الحرب الأهلية. فاللبنانيون عرفوا بالمرارة والألم أن الاختلاط الذي كان قائماً ما قبل الحرب الأهلية كان سبباً أساسياً في تطويل حبل الآلام، وتوسيع خنادق المرارة التي تم حفرها بينهم. وهم لهذه الأسباب المتصلة بذاكراتهم المكوية بالألم يرفضون أي تعد على الحدود القائمة بين المناطق أو اختراق لها. هكذا قاوم دروز الجبل قوات «حزب الله» النظامية وحالوا دون سيطرته على الجبل، لكن بيروت المختلطة، التي لكل طرف فيها حصة لم تكن هذه حالها في تلك الحرب القصيرة. والأرجح أن مغامرة في مناطق لبنان ذات الغلبة المسيحية ستقاوم بالشراسة نفسها التي أبداها دروز الجبل في الدفاع عن جبلهم في وجه الاختراق. وهذا بالضبط المعنى الدقيق لكلام السيد وليد جنبلاط عن الحدود التي يجدر بالناس الدفاع عنها بالسلاح. أي حين يتعرض المرء لهجوم على بيته مباشرة. مما يجعل الدفاع عما هو مشترك بين اللبنانيين لا يجد من ينتصر له أو يتحمس للدفاع عنه.

هذا لا يعني أبداً أن قرار الموالاة اللبنانية في تجنب المواجهة المسلحة في بيروت كان قراراً خاطئاً، لكنه لا يعفينا من ملاحظة أن السيطرة عليها من قبل قوات المعارضة، لا تجعل الطائفة السنية في لبنان ضعيفة وخائفة، ولا تجعل دروز الجبل لقمة سائغة في حلق مقاتلي «حزب الله» المحترفين، لكنها من دون شك تجعل الطرف المسيطر عليها مقرراً أساسياً في مباني الدولة اللبنانية التي لم تعد تعمل إلا في هذه البقعة من لبنان.

وهذا معنى تعريض بيروت لمثل هذا الاختبار، بوصف بيروت تمثل إجماعاً لبنانياً آخر، يختلف كثيراً أو قليلاً عن الإجماع السياسي على انتخاب الجنرال سليمان رئيساً للجمهورية. الإجماع على بيروت قد يكون اقتصادياً، بمعنى أنها المكان الأخير الذي تنعقد فيه نشاطات التجارة والأعمال، وبعض وسائل الإعلام، ويمكن أن تتجاور فيها، بما لا يبعث على الريبة أو الاستهجان، تجارات من منابت مختلفة ووسائل إعلام ذات توجهات متناقضة. ذلك أن القوى السياسية اللبنانية مازالت تعتبر بيروت سوقاً لتجاراتها ومجالاً حيوياً لرواج بضائعها العقائدية والسياسية والتجارية على حد سواء. وعلى نحو ما كانت المسافة بين الإجماع على الجنرال سليمان مرشحاً توافقياً وانتخابه الفعلي مرصوفة بالجثث ومروية بالدماء. فإن بيروت كحيز مشترك بين اللبنانيين تعرضت لتعطيل دورها والتهديد بشله كلياً، على المستويين الحكومي والرسمي من جهة أولى والمستوى الاقتصادي من جهة ثانية.

لهذه الأسباب كانت فرحة اللبنانيين يوم إعلان اتفاق الدوحة فرحتين: فرحة الاقتصاد اللبناني من تحرره من احتلال المعتصمين، وفرحة انتخاب الرئيس. ليس لأن في تحقق هذين الإنجازين، على أهميتهما، إنهاء لأسباب الأزمة اللبنانية، بل لأن إنجازهما يعني تجاوز اللبنانيين هذا النوع من أعراض الأزمة نحو أعراض قد تكون أخطر وأدهى. وبعض أسباب الفرح تعود إلى كونهم يعرفون أنهم يعيشون في نفق لا ضوء فيه، وأن كل خطوة يتقدمونها في عتمته تزيد من مخاطره لكنها في الوقت نفسه تقربهم من نهايته.

* كاتب لبناني

back to top