الندرة في عصر الوفرة

نشر في 10-06-2008
آخر تحديث 10-06-2008 | 00:00
ترجع الأزمة التي يعيشها العالم اليوم إلى عاملين أساسيين: أولهما، حرب العراق التي ساهمت في ارتفاع أسعار النفط، نتيجة لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط الذي يُـعَد مصدراً رخيصاً للنفط. وثانيهما ،أن التوسع في إنتاج الوقود الحيوي ترتب عليه نشوء نوع من التكامل بين أسواق الغذاء والطاقة، ما تسبب في تشويه هيكل الإمدادات الغذائية.
 بروجيكت سنديكيت في كل مكان من العالم أصبحت الاحتجاجات ضد أسعار الغذاء والوقود، التي ارتفعت إلى عنان السماء، في تصاعد مستمر. فقد أصبح الفقراء- وحتى أهل الطبقة المتوسطة- يرون دخولهم وهي تتقلص مع دخول الاقتصاد العالمي إلى فترة من التباطؤ والركود. ويتمنى الساسة لو يتمكنون من الاستجابة للمخاوف المشروعة التي يعرب عنها ناخبوهم، إلا أنهم لا يدرون ماذا يتعين عليهم أن يفعلوا؟

في الولايات المتحدة، قرر كل من جون ماكين وهيلاري كلينتون سلوك الطريق السهل إلى الخروج من هذا المأزق، فأيدا تعليق ضريبة البنزين، على الأقل طيلة فترة الصيف. أما باراك أوباما فقد تمسك بموقفه ورفض الاقتراح، الذي لن يؤدي إلا إلى زيادة الطلب على البنزين في حالة تطبيقه- الأمر الذي سيؤدي إلى ابتلاع الفوائد المترتبة على التخفيض الضريبي.

ولكن إذا كان كلينتون وماكين على خطأ، فما هو التصرف الواجب إذاً؟ لا نستطيع أن نتجاهل ببساطة توسلات المتألمين. ففي الولايات المتحدة ما زالت دخول الطبقة المتوسطة الحقيقية أقل من المستويات التي بلغتها قبل فترة الركود الأخيرة في عام 1991.

حين انتُخِب جورج دبليو بوش، زعم أن تخفيض الضرائب التي يدفعها الأغنياء من شأنه أن يعالج المشاكل الاقتصادية كلها، وأن الفوائد المترتبة على النمو الذي سيستحثه هذا التخفيض الضريبي سوف تعم على الجميع- وهي الخطة التي سارع الساسة في أوروبا وأماكن أخرى من العالم إلى تبنيها، ألا أنها منيت بالفشل. كان من المفترض في هذه التخفيضات أن تعمل على تحفيز تشغيل العمالة، لكن الواقع يؤكد أن مستويات مشاركة قوة العمل أصبحت أدنى مما كانت عليه في تسعينيات القرن العشرين. ومن الواضح أن النمو الذي تسنى لم تذهب فوائده إلا إلى أهل القمة.

كما شهدت الإنتاجية نمواً لبعض الوقت، إلا أن ذلك لم يكن بسبب الإبداعات المالية التي ابتكرت في وول ستريت. إذ إن المنتجات المالية الجديدة لم تتمكن من إدارة المجازفة؛ بل إنها عملت على تزيين المجازفة فحسب. كما كانت هذه الأدوات الجديدة مغرقة في الغموض والتعقيد إلى الحد الذي جعل الخبراء في وول ستريت وهيئات التقييم المختلفة عاجزين عن تقييمها. وفي الوقت نفسه، فشل القطاع المالي في ابتكار المنتجات القادرة على مساعدة المواطنين العاديين في إدارة المجازفات التي يواجهونها، بما في ذلك المجازفات المرتبطة بملكية المساكن. فقد بات من المرجح أن يخسر الملايين من الأميركيين مساكنهم، ومعها مدخراتهم التي جمعوها طيلة حياتهم.

في قلب النجاح الأميركي، تكمن التكنولوجيا التي يرمز إليها بوادي السيلكون. ومن عجيب المفارقات هنا أن العلماء الذين كانوا السبب وراء هذا التقدم الذي جعل النمو القائم على التكنولوجيا أمراً ممكناً، وشركات رأس المال التي مولت هذا التقدم، لم يحصدوا القدر الأعظم من الفوائد أثناء فترة الذروة التي بلغتها فقاعة الإسكان. فقد تاهت استثماراتهم الحقيقية وسط الألعاب الجديدة التي استوعبت أغلب المشاركين في الأسواق المالية.

يتعين على العالم أن يعيد النظر في مصادر النمو. وإذا ما كانت مؤسسات النمو الاقتصادي تقوم في الأساس على التقدم الحاصل في العلوم والتكنولوجيا، وليس على المضاربة في العقارات السكنية أو الأسواق المالية، فلابد من إعادة النظر في الأنظمة الضريبية. فما الحكمة وراء مطالبة هؤلاء الذين يقامرون في نوادي شارع المال وول ستريت برسوم ضريبية أقل من أولئك الذين يكسبون أموالهم بسبل مختلفة؟ إن الضريبة على مكاسب رأس المال ينبغي ألا تقل عن الضريبة المفروضة على الدخل العادي. (ومثل هذه العوائد سوف تحقق فوائد ملموسة في كل الأحوال، وذلك لأن الضريبة لا تفرض إلا بعد تحقيق الربح). فضلاً عن ذلك فلابد من فرض ضريبة على الأرباح غير المتوقعة التي تجنيها شركات النفط والغاز.

نظراً لاتساع فجوة التفاوت في أغلب بلدان العالم، فقد أصبح من الواجب فرض ضرائب أعلى على من أصابوا الثراء- لمساعدة هؤلاء الذين خسروا نتيجة للعولمة والتغيير الذي أحدثته التكنولوجيا، وقد يساعد هذا أيضاً في تخفيف الضغوط الناجمة عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة إلى عنان السماء. كما يتعين على الدول التي تطبق برامج الإعانات الغذائية أن تزيد من قيمة هذه الإعانات من أجل ضمان عدم تدهور معايير التغذية. أما الدول التي لا تطبق مثل هذه البرامج فلابد أن تفكر في تطبيقها.

ترجع الأزمة التي يعيشها العالم اليوم إلى عاملين أساسيين: أولهما، حرب العراق التي ساهمت في ارتفاع أسعار النفط، نتيجة لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط الذي يُـعَد مصدراً رخيصاً للنفط، وثانيهما أن التوسع في إنتاج الوقود الحيوي ترتب عليه نشوء نوع من التكامل بين أسواق الغذاء والطاقة. ورغم ترحيبنا بالتركيز على مصادر الطاقة المتجددة، فإن السياسات التي تؤدي إلى تشويه الإمدادات الغذائية ليست موضع ترحيب. والحقيقة أن المعونات التي تقدمها الولايات المتحدة لإنتاج الإيثانول باستخدام محصول الذرة قد أسهمت في تضخيم ثروات منتجي الإيثانول ولم تساعد في تقليص الأضرار الناجمة عن الاحتباس الحراري العالمي. لقد تسببت الإعانات الزراعية الضخمة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في إضعاف الزراعة في بلدان العالم النامي، التي لم تحصل إلا على أقل القليل من المساعدات الدولية في مجال تحسين الإنتاجية الزراعية. فقد هبطت مساعدات التنمية في مجال الزراعة من 17% من إجمالي المساعدات إلى 3% فقط اليوم، فضلاً عن إصرار بعض الجهات الدولية المانحة على إلغاء المساعدات الخاصة بتوفير مخصبات التربة، الأمر الذي يزيد من حجم المصاعب التي يواجهها المزارعين المعوزين.

يتعين على الدول الغنية أن تحرص على تخفيف، إن لم يكن إزالة، السياسات المشوهة في مجال الزراعة وإنتاج الطاقة، ومساعدة الدول الأكثر فقراً في العالم على تحسين قدراتها على إنتاج الغذاء. إلا أن هذا كله لا يشكل أكثر من مجرد بداية. فقد تعاملنا مع أثمن مواردنا- الماء النظيف والهواء- وكأنها مجانية. ولن يتسنى لنا معالجة المشاكل الجوهرية التي تحيط بقضية الموارد إلا بتبني أنماط جديدة في الاستهلاك والإنتاج- نموذج اقتصادي جديد بالمرة.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top