خيار التسوية السياسية بين واشنطن وطهران 2-5
تركز هذه السلسلة من المقالات على خيار التسوية السياسية بين واشنطن وطهران عبر محاولة الإجابة عن أسئلة مفتاحية في معضلة العلاقات الأميركية الإيرانية مثل: أولاً، ما خيارات واشنطن الجدية تجاه طهران؟ وثانياً، ما الأبعاد الجيوبوليتيكية للتسوية على الصعيد الدولي في ما يخص الصين؟ وثالثاً، في ما يخص روسيا؟ ورابعاً، كيف تبدو ملامح هذه التسوية؟ وخامساً، مَن الطرف الذي يعرقل خيار التسوية السياسية؟لن تؤثر التسوية المحتملة بين واشنطن وطهران في التوازنات بالمنطقة فقط، بل سيتعدى نطاق تأثيرها رقعة المنطقة لتصل إلى قلب معادلات التوازن الدولية، خصوصاً في ما يتعلق بحسابات القوى بين الولايات المتحدة والصين أيضاً. وأصبحت الصين منذ عام 1993 لأول مرة في تاريخها الطويل مستورداً صافياً للطاقة، حتى انها صارت، بمرور الوقت، تتنافس مع الولايات المتحدة الأميركية على قمة الدول المستوردة للطاقة في العالم. ويدفع هذا التحول، التنين الصيني المتعطش إلى موارد الطاقة والمنعزل في الشرق الأقصى، إلى طرق أبواب الشرق الأوسط، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام تعاون إيراني-صيني، بسبب الرغبة الصينية المعلومة. وتتعزز أهمية إيران، رابع أكبر منتج للنفط وثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، لدى الصين بسبب طبيعة النموذج الاقتصادي الصيني. والأخير يعتمد على التصدير وعلى تحقيق معدلات عالية من التنمية والتشغيل للمواطنين الصينيين، وهو ما يشترط- ابتداءً- تأمين الطلب المتزايد على الطاقة، ولأن بكين تسعى إلى تنويع مصادرها من الطاقة، وبشكل يجعلها لا تعتمد على نفط الشرق الأوسط فقط، فإنها تدعم مواقعها في آسيا الوسطى حتى تستطيع النفاذ إلى منطقة بحر قزوين. وتقدم الجغرافيا الإيرانية لها المزيتين معاً: حقول الجنوب الإيراني المطلة على الخليج تؤمن جزءاً معقولاً من نفط الشرق الأوسط، أما الشمال الإيراني فيمنح بكين فرصة الإطلالة الممتازة على بحر قزوين الغني بالطاقة هو الآخر. تحتل إيران موقعاً مركزياً في سلم الأولويات الصينية، بسبب تضافر عوامل الجغرافيا والجيوبوليتيك وتأمين الواردات من الطاقة. والعامل الأخير يحتل رأس أولويات الأمن القومي الصيني منذ عام 1993 على الأقل، إذ أصبحت الصين في ذلك العام مستورداً صافياً لموارد الطاقة. وبتعاظم معدلات التنمية في الصين؛ فقد زادت الاحتياجات الصينية من الطاقة بنسبة 230 في المئة خلال فترة ربع قرن فقط (1980 حتى 2004). كما أن إيران منتج ضخم للطاقة وسوق كبير لتصريف المنتجات الصينية اللازمة لإدامة معدلات التنمية المرتفعة، والتي تشكل الأساس لنموذجها الاقتصادي الحالي. ويسمح التحالف مع إيران بتسهيل المهمة الصينية في دخول الشرق الأوسط المهم في الاستراتيجيات العالمية، وفك عزلة الصين عنه. ونظرة متأنية على خريطة الشرق الأوسط وغرب آسيا تكشف بوضوح أن إيران هي الحليف للوحيد للصين في هذه المنطقة، التي تؤمن 45% من وارداتها النفطية. كما تنظر الصين إلى إيران باعتبارها المطل المائي المحتمل في الخليج للأسطول الصيني الضخم، وهو المطل المفيد تجارياً وجيوبوليتيكياً. وتتأكد هذه الفرضية بملاحظة أفضلية القرب الجغرافي للصين- مقارنة مع أميركا مثلاً- من القوس الجغرافي الحاوي لنحو 71 في المئة من احتياطات النفط عالميا،ً وحوالي 69 في المئة من احتياطات الغاز الطبيعي. يشمل هذه القوس الجغرافي كلا من: روسيا، وآسيا الوسطى، وإيران والعراق، والسعودية، ودول الخليج العربية. ويسمح هذا القرب الجغرافي للصين بإحراز الأفضلية في التسابق على موارد الطاقة مع واشنطن مستقبلاً، شريطة أن يكون لها موطئ قدم فيها، وهو ما تؤمنه إيران بموقعها الجغرافي في قلب القوس المذكور. وتملك إيران مزايا فريدة- من منظور الأمن القومي الصيني- فسكانها يمثلون 1% فقط من سكان العالم، ولكنها في المقابل تمتلك 10% من الاحتياطي النفطي المؤكد عالمياً، وهي رابع أكبر منتج للنفط في العالم. ولا تقتصر أهمية إيران عند ذلك فقط، فهي تملك في الوقت ذاته 16% من الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي عالمياً، وهو ما يضعها في مرتبة ثاني أكبر منتج للغاز في العالم بعد روسيا. ولأن إيران تنتج 6.2 ملايين برميل من النفط يومياً، تستهلك منها 3.6 ملايين برميل يومياً، فإنها تصدر 2.6 مليون برميل يومياً، وهي اللازمة بشدة للاقتصاد الصيني الأخذ في النمو. ووفقاً لهذه الأرقام، فمن الممكن أن تنتج إيران المستوى نفسه من الإنتاج اليومي الحالي للنفط مدة تزيد على أربعين عاماً، إذ تبلغ احتياطاتها 130 مليار برميل من النفط. ومن الممكن لإيران أيضاً أن تنتج أيضاً 500 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً لمدة خمسة وخمسين عاماً، على حساب احتياطاتها من الغاز الطبيعي والبالغة 27 تريليون متر مكعب. وهكذا تشكل إيران الممر الرئيسي الذي يمكِّن الصين من الوصول إلى مصادر الطاقة في الخليج العربي وبحر قزوين، وبالتالي تستطيع إيران بوضوح عرقلة بكين وصعودها الكبير في النظام الدولي لمصلحة واشنطن في حال تم التوصل إلى تسوية سياسية بين الطرفين الأميركي والإيراني، واستخدام إمكانات إيران النفطية لتكون خصماً من رصيد الصين وليس إضافة له، كما هو الحال الآن. * مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة